
| تفاصيل البحث |
الكون والإنسان والعلاقة بينهما في التصوّر الإسلاميّ
د. بسمة بنت أحمد محمّد جستنية
عضو هيئة التّدريس بجامعة طيبة بالمدينة المنوّرة
The universe and human relationship in the Islamic conception
Dr. Basma bint Ahmed Mohammed Justinia
Faculty member at Taibah University in Al-Madinah Al-Munawwarah
الملخص
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وبعد، فقد تعالت النّظريات المتعدّدة التي حاولت وتحاول تفسير حقيقة هذا الكون ونشأته، والإنسان وبدايته، كلّ يقدّم تفسيره وتصوّره مِن منطلق منهجه ومعتقده.
ولقد أسّس لنا المنهج القرآنيّ العلم الصّحيح والتصوّر الإسلاميّ الذي يشفي عليلاً ويروي غليلاً في بيان تلك الحقائق الغيبية، ذات الأهمّية العظمى في حياة الإنسان، واتّجاهاته العقدية، والتي أنشأت في عقل المسلم وقلبه ذلك التصوّر للوجود وعلاقته بالخالق تبارك وتعالى.
إنّ الإنسان حين يتلقّى منهجه عن ربّه تصحّ وتتحدّد علاقته بالكون مِن حوله، ذلك أنّ المسلم ينظر إلى الوجود من خلال حقيقتين أساسيتين: حقيقة التّوحيد، وهي خاصّة بالله تعالى ربّ العالمين وحده لا شريك له، وحقيقة العبودية، وهذه عامّة في كلّ ما سوى الله تعالى.
والكون، وهو تعبير يشمل الخليقة كلّها من سموات وأرضين، وما فيهنّ وما بينهنّ، والإنسان وما أودع الله فيه من خصائص، كلّ منهما وضح لنا القرآن الكريم حقيقته، ويستطيع الإنسان أن يدرك أنّ الله تعالى سخّر له كلّ ما في الأرض، وكثيراً من العالم المنظور حوله لخدمته ومصلحته؛ ليحقّق الغابة من وجوده في هذه الحياة الدّنيا. فيستطيع الإنسان أن يدرك من خلال القرآن الكريم كيف تكون علاقته بالكون من حوله، والإنسان وحقيقته، وكيف يتعامل مع هذا الوجود حوله. هذا هو موضوع البحث: «الكون والإنسان والعلاقة بينهما في التصوّر الإسلاميّ»، عرضت فيه للنّظريات السّابقة عند الأمم للكون والإنسان، وأعرض فيه بعد ذلك في صلب البحث لجوانب يقينية لتحقيق الألوهية والرّبوبية، وإخلاص العبودية لله تعالى.
كلمات مفتاحية: الكون، الإنسان، التصوّر الإسلاميّ، المنهج القرآنيّ، التّوحيد.
Abstract:
Thanks to Allan and I bear witness there is no god but Allah and witness that Muhammad (PBUH) is his worshipper and messenger. Many theories have tried and are trying to explain the truth of the universe and its cosmogony, the human being and his beginnings in terms of their approaches and beliefs.
The Quranic approach sets the true knowledge and the Islamic perception which heals when it clarifies these supernatural (metaphysical) facts that play a great role in the life of the person in addition to his doctrinal tendencies. These tendencies evolve in the Muslim’s mind and heart in depicting his existence and his relationship with the Creator, the Great Almighty.
The human being’s relationship with the universe around will be defined and improved when he receives his approach from God. The person conceives the universe through two truths: monotheism - and it’s related to Allah the One and the Only – and worshipping and it’s common in all God’s creations.
The universe includes all creation from heaven, earth, and the human being. The Holy Quran explained this truth and the person can easily recognize that God, the Almighty, exploited everything in the universe to his utility to achieve the objective of his existence in this world.
This is the topic of this research entitled “The Universe, the Human being and their Interrelationship in Islamic Conception” which surveys previous theories of the universe and the human being to reach absolute aspects achieving deity and sincere worshipping of Allah, the Almighty.
Keywords: The universe, Human, Islamic perspective, Quranic methodology, Oneness of God
مقدمة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلاّ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وبعد:
فقد تعالت النّظريات المتعدّدة التي حاولت وتحاول تفسير حقيقة هذا الكون ونشأته، والإنسان وبدايته، كلّ يقدّم تفسيره وتصوّره من منطلق منهجه ومعتقده. ولقد أسّس لنا المنهج القرآني العلم الصّحيح الذي يشفي كلّ عليل، ويروي كلّ غليل، في بيان تلك الحقائق الغيبية، ذات الأهمّية العظمى في حياة الإنسان الدّينية والدّنيوية، والتي أنشأت في عقل المسلم وقلبه تلك المعرفة للوجود وعلاقته بالخالق تعالى.
إنّ الإنسان حين يتلقّى منهجه عن ربّه تصحّ وتتحدّد علاقته بالكون من حوله، ذلك أنّ المسلم ينظر إلى الوجود من خلال حقيقتين أساسيتين: حقيقة التّوحيد، وهي خاصّة بالله تعالى ربّ العالمين وحده لا شريك له، وحقيقة العبودية، وهذه عامّة في كلّ ما سوى الله تعالى.
والكون، وهو تعبير يشمل الخليقة كلّها من سموات وأرضين وما فيهنّ وما بينهنّ، والإنسان وما أودع الله فيه من خصائص، كلّ منهما وضح لنا القرآن الكريم حقيقته، ويستطيع الإنسان أن يدرك انّ الله تعالى سخّر للإنسان كلّ ما في الأرض، وكثيراً من العالم المنظور فوقه لخدمته ومصلحته؛ ليحقّق الغاية من وجوده في هذه الحياة الدّنيا، كما يستطيع الإنسان أن يدرك من خلال القرآن الكريم كيف تكون علاقته بالكون من حوله، وكيف يتعامل مع هذا الوجود حوله، هذا هو موضوع البحث: «الكون والإنسان والعلاقة بينهما في التصور الإسلامي »، أعرض فيه لجوانب يقينية في هذا الأمر والغاية من ذلك لتحقيق معرفة الله بأسمائه وصفاته وربوبيّته.
ولأهمّية التأسيس العقدي للعلوم لينطلق الباحث المسلم على بصيرة، كانت هذه الدّراسة «الكون والإنسان والعلاقة بينهما في التصوّر الإسلامي»، وذلك ببيان الأساس الذي يقدّم للإنسان النّظرة الكلّيّة الشّاملة للكون والإنسان والحياة، وعلاقة كلّ منها بالله تعالى خالق الكون والإنسان والحياة، وعلاقة الكون
والحياة بالإنسان، ودور الإنسان في هذه الحياة الدّنيا وما بعدها، للإجابة على الأسئلة الغائية والنّهائية.
وقد قسّمت البحث إلى مقدّمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، على النّحو الآتي:
تمهيد: أوّلاً: في بيان النّظريات السّابقة عند الأمم للكون والإنسان.
ثانياً: أسس ومنطلقات الفكر والمنهجية في الإسلام.
ثالثاً: مجمل خصائص التصوّر الإسلاميّ.
المبحث الأوّل: حقائق تتعلق بالكون في الإسلام، وحوى:
أوّلاً: أنه مخلوق بحكمة بالغة.
ثانياً: أنه مخلوق لغاية وحكمة.
ثالثاً: أن الكون مستسلم طائع لمولاه خاضع له.
المبحث الثّاني: الإنسان في التصوّر الإسلاميّ، وفيه تمهيد ويليه:
أوّلاً: الغاية من خلق الإنسان.
ثانياً: تميّز الإنسان.
ثالثاً: الإنسان المتميّز.
وأخيراً المبحث الثّالث: العلاقة بين الإنسان والكون في الإسلام، وحوى:
أوّلاً: التّسخير وتحقيق المنافع.
ثانياً: إنها دليل للإنسان على الخالق العظيم.
ثالثاً: التفكر والتدبر لتحقيق العبودية لله تعالى.
رابعاً: عمارة الأرض وإصلاحها وعدم الإفساد. ثمّ الخاتمة: وفيها أهمّ النّتائج التي توصّلت إليها من خلال البحث والتّوصيات، وأتبعت ذلك بفهرس للمصادر المعتمدة في هذا البحث.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وصلّى الله على نبيّنا محمّد آله وصحبه وسلم.
تمهيــــــــــــــــــد
تعالت عدة نظريات عن الكون عند الأمم السابقة، وفيما يلي عرض لها:
أوّلاً: النّظريات السّابقة عند الأمم للكون والإنسان:
إنّ العلوم الإنسانية في الغرب وثيقة الصّلة بأسسها الفلسفية، ولذا لا بدّ من تقرير أمور متعلّقة بالنّتاج البشريّ الغربيّ، وهو أنّ الغرب المتمثّل في أوربا وأمريكا مرّ بثلاث حلقات متعاقبة زمانياً:
الحلقة الأولى: هي سيادة النّصّ الشّرعيّ (الوحي)، وهذا هو الأصل، وفيها جاءت النّصرانيّة كديانة مؤقّتة ليست خالدة، ولأنّ الله عزّ وجلّ لم يقدر لها الخلود لم يقدر لها الحفظ، وكلّ الرّسالات قبل الإسلام كانت محدّدة زماناً وأحياناً زماناً ومكاناً، ولكن النّصارى أرادوا لها الخلود، وأن تحكم النّصرانيّة الحياة في الوقت الذي لم تكن مؤهّلة لذلك، ولم يكن السّقف المعرفي لرجالات الدّين النّصرانيّ سوى اجتهادات بشرية صرفة صادمت بها العلماء، واختلفت مع المفكّرين لا سيما علماء الطّبيعة.
ثمّ ظهرت الثّورة الفرنسية، وأعقبها التّقدّم الملحوظ في جوانب العلوم الطّبيعيّة ممّا أدّى إلى دخول أوربا باستثناء المجمّعات الكنسية إلى دخول في حلقة ضياع النّصّ، حيث فرّخت وعشّشت العلمانية اللادينيّة، كردّة فعل لهيمنة الكنيسة، وانزلقت المجتمعات الغربية في مستنقع الرّذيلة، والانحلال في الجانب الأخلاقي، أمّا الجانب العقديّ فقد سرت فيه موجة الإلحاد، يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: 1900م «لقد آن للإنسان أن يفعل كلّ شيء، لقد مات الإله، ووجد السّوبرمان».
بعد هذا الفراغ العقديّ في حلقة ضياع النّصّ، دخلت أوربا والغرب بشكل عام في حلقة تلمّس البدائل في نسق علمانيّ، وازدهرت الفلسفات الوضعية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة والقضايا الكبرى، في ظلّ تغييب وإقصاء الدّين عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود، ولقد جاءت هذه الفلسفات بتعاقب زمني، كلّ فلسفة ردّة فعل لِما سبقها. وحين أعرض في هذا البحث للنّظريات السّابقة عند الأمم للكون والإنسان، أخصّ بالذّكر فلسفتين كان لها الأثر الواضح في الفكر البشريّ، ألا وهي فلسفة أصحاب الأديان، وأعني بها اليهودية والنّصرانيّة خصوصاً، وفلسفة الإلحاديين.
أوّلاً: فلسفة أصحاب الأديان:
حرّف اليهود والنّصارى كتبهم السّماويّة، واضطربت مفاهيمهم نتيجة أسباب عدّة، منها: اتّصالها بالفلسفات الوثنية المتعدّدة، من فلسفات الهند واليونان ومصر القديمة، أي: الفكر الشّرقيّ ذي الجذور الغنوصية، (والفكر الهلليني ذي الجذور الماديّة والمتعددة، ممّا أخرج هاتان الدّيانتان عن طابعهما الرّبّانيّ الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السّلام.
وأبرز الانحرافات التي أصابت اليهوديّة أنّهم جعلوا نظرتهم للكون مبنيّة على عنصريّتهم وتعصّبهم لجنسهم، باعتبار أنفسهم شعب الله المختار، وإنكار الآخرة والبعث، وهم ينتظرون مسيحهم من نسل داود، الذي يعيد مجد إسرائيل، ويجمع شتات اليهود في فلسطين.
والنّصرانيّة أيضاً لم تلبث أن انحرفت بعد أن عبرت إلى أوربا، واستقرّت في الدّولة الرّومانيّة، ذات الحضارة الوثنيّة والفكر الهلليني والقانون الرّومانيّ، وفي ظلّ هذا الجوّ سيطرت النّصرانيّة على أوربا، واحتوتها الفلسفتان اليونانية والغنوصيّة، فأخرجتاها عن الرّسالة السّماويّة المنزّلة فأصابها التّحريف، وأبرز ذلك في فكرة التّثليث وألوهية المسيح، والخطيئة والصّلب باسم التّكفير عن خطيئة البشر... وفي العصور الوسطى سيطرت الكنيسة على مجريات الحياة، بحيث كان البابا هو (الربّ الأسفل)، وكان الكرادلة والأساقفة هم حلقة الوصل بينه وبين عامّة النّاس، فيما كان هو حلقة الوصل بين البشر وبين الله (الربّ الأعلى). وهذا محض تحريف لرسالة عيسى عليه السّلام، فحرّفت العقيدة، وكذا التّشريع، واستبدلا بالقوانين الوضعية الرّومانيّة، فكانت النّتيجة كبت شديد في أوساط العامّة، وقتل للأفكار في المهد وإبادة لكلّ مَن يتجرّأ ويناقش ما تقوله الكنيسة، وإلاّ فإنّ مصير من يفعل ذلك حملات التّأديب والإرهاب والتّعذيب أو القتل، وأصبح العلم ومناقشة حقائق الكون هرطقة في نظر الكنيسة؛ لأنّ كثيراً من العلوم والحقائق كانت تخالف اتّجاهات الكنيسة. وعندما ضاق النّاس بهذا الكبت والافتراء، كان لا بدّ من ثورة جارفة تقتلع الكنيسة، فقامت الثّورة الصّناعيّة على مبادئ إلحادية محضــــــــة، وأبعدت الدّين وأقصته عن الحياة، وكانت الحقائق مخالفة تماماً لِما زرعته الكنيسة، فكان هذا النّفور من الدّين، ويمكن القول بكلّ تأكيد أنّ ما نراه اليوم إنّما هو نتاج الحضارة الغربية التي قامت على الثّورة الصّناعية الفرنسية ومبادئها الإلحادية
ثانياً: فلسفة الإلحاد.
إذا تكلّمنا عن الإلحاد منذ عهد الإغريق حتّى عصرنا الحاضر، فلا بدّ أن نشير إلى أنّه قد ظهرت فكرة الاعتقاد بوجود ذات مجرّدة عن المادّة والمدّة، منزّهة عن الجسميّة، وسلسلة الموجودات ماديّة مجرّدة، وعرفوا بـ(المتألهين)، أي: يعتقدون بوجود ذات لها مطلق التّصرّف في الكائنات، ومنهم: فيثاغورث وسقراط 399ق، م وأفلاطون وأرسطو322ق..م، في القرن الرّابع والثالث قبل الميلاد.
أمّا الأخرى فقد نفت كلّ موجود سوى المادّة والمادّيات، وعرفت هذه الطّائفة بـ(المادّيّين)، والوجود عندهم نشأ صدفة، ورأسهم ديموقريطس 361ق م، ثمّ أبيقور270ق.م، مروراً بـشوبنهاور الفيلسوف الألماني1860، إلى نيتشه 1900م، ثمّ برتراندرسل الفيلسوف الإنكليزي 1970م.
تزعم المادّيّة أنّ الوجود كلّه منحصر في الكون المادّيّ الخاضع للإدراك الحسّيّ، وأنّ المادّة الأولى للكون مادّة عديمة الحياة والإدراك، وارتقت إلى صفاتها بالتطّور الذّاتيّ، حتّى وصل الكون إلى ما هو عليه الآن، ومادّة الكون الأولى أزليّة، ولا توجد علّة للكون عندهم، ولذا قالوا بالنّشوء والارتقاء: أبيقور حين قال بتطوّر المادّة وتبدّلها في صور مختلفة بمرور الزّمان، حتّى وصلت إلى هيئتها، ودارون ونظريّته في أنّ الإنسان هو المرحلة الأخيرة من حلقات التّطوّر عبر القرون.
وفي العصر الحاضر ونتيجة لسيطرة العقل المجرّد على الفكر الغربيّ، ظهرت العديد من النّظريات التي تتحدّث عن نشوء هذا الكون، والنّظريّة الحديثة التي تفسّر أصل الكون والتي لاقت رواجاً بين العلماء، هي نظرية «الانفجار العظيم»، أمّا النّظريّة التي تفسّر أصل المجموعة الشّمسيّة فهي «النّظرية السديميّة»، وهي تعدّ جزءاً من نظرية الانفجار العظيم.
نظرية الانفجار العظيم (Big Bang Theory):
ملخّص النّظريّة: أنّه قبل (15) بليون سنة وقع انفجارٌ هائلٌ في ذرّة بدائيّة، كانت تحتوي على مجموع المادّة والطّاقة، وفي اللّحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدّة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرّات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذّرّات، وهي ذرّات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذّرّات تألّف الغبار الكوني، الذي نشأت منه المجرّات فيما بعد، ثمّ تكوّنت النّجوم والكواكب –وما زالت تتكّون –وفي غضون ذلك كان الكون وما زال في حالة تمدّد وتوسّع، وبذلك فإنّ الانفجار العظيم أدّى ليس فقط إلى ظهور جزئيّات ذرّية جديدة، بل إلى وجود مفهومي الزّمان والمكان، اللّذين كان يستحيل الحديث عنهما قبل المادة.
تعزى هذه النّظرية إلى العديد، ولكن أبرزهم القسّ البلجيكي جورج لو مينير، وجورج كاموف، واستدلّوا بالعديد من الأدلّة على قولهم.
النّظرية السّديميّة (Nebular Theory):
الفكرة العامّة لنشوء المجموعة الشّمسيّة تتمثّل في أنّ نظامنا الشّمسيّ كان يتكوّن من غيمة من الغاز والغبار، يطلق عليها اسم «السّديم» (Nebula)، تقع في أعماق الذّراع الحلزونيّ لمجرّة درب التّبّانة، التي هي واحدة من المجرّات العديدة، التي تكوّنت بسبب الانفجار العظيم.
هذه الغيمة الضّخمة كانت تتكوّن من عنصرين خفيفين هما: الهيدروجين والهليوم مع قليل من الأوكسجين وحتّى كمّيات صغيرة من العناصر النّادرة، مثل: السّليكون والحديد.
هذا السّديم يدور ببطء حول مركزه، الذي يتكوّن من كتلة تحتوي على دوّامات معقّدة، وتحت تأثير قوّة الجاذبية أخذ السّديم شكل القرص الدوّار مع زيادة في حرارة وكثافة الكتلة عند المركز، والتي أدّت بالنّهاية إلى تكوّن الشّمس، وبعد فترة قصيرة نسبيّاً، ربّما أقلّ من (100) ألف سنة بعد تكوّن السّديم، فإنّ الدّقائق الصّغيرة في النّظام الشّمسيّ الجنينيّ أو غير النّاضج أصبحت أكبر وأكبر، حتّى أصبحت أجساماً بحجم أحد الكواكب السّيّارة الواقعة بين المريخ والمشتري، متكوّنة من الصّخور والجليد تدعى بالكواكب البدائيّة، عندما تتحرّك هذه الكواكب البدائية في مدارات حول الشّمس فإنّها تصبح أجساماً أكبر، قادرة على النّمو بواسطة التّعاظم الجذبيّ، الذي يجعلها تكنس أو تجمع العديد من المواد الأصغر القريبة من مداراتها، وبذلك فإنّ هذه الكواكب البدائية تصبح كواكب رئيسة.
نظرية «الأوتار الفائقة» (Superstring Theory):
ظهرت حديثاً، ونجحت في نظرهم في التّوحيد بين صور القوى (الطّاقات) الأربعة: الجاذبيّة – الكهرومغناطيسية – النّووية – والنّووية الضّعيفة المتمثّلة في الاضمحلال الإشعاعيّ – ونجحت في التّوفيق بين نظرية «الكمّ» ونظرية «النّسبيّة العامة» في انسجام عجيب.
وبحسب هذه النّظرية فإنّ الكون ما هو إلاّ سيمفونيّة أوتار فائقة متذبذبة، والوتر المتذبذب يجعل الفضاء المكاني الزّمانيّ المحيط به يلتوي حوله، وبحسب هذه النّظرية فإنّ الكون له عشرة أبعاد، وبحسب نظرية الأوتار الفائقة فإنّ الكون الذي نعيش فيه ليس وحيداً، وإنّما هناك أكوان عديدة متّصلة ببعضها البعض كالعنقود، ويرى العلماء أنّ هذه الأكوان متداخلة، ولكلّ كون قوانينه الخاصّة به، بمعنى أنّ الحيّز الواحد في عالمنا قد يكون مشغولاً بأكثر من جسم، ولكن من عوالم مختلفة، وقد يكون هذا صحيحاً في التصوّر الإسلاميّ، حيث نؤمن نحن المسلمين بالجنّ والملائكة الذين لهم طبيعة خاصّة بهم تختلف عن طبيعة ما نعرفه في عالمنا المحسوس. ومشكلة هذه النّظرية من المنظور الإسلاميّ أنّها تقتضي ضمنيّاً شركاً وكفراً بوحدانيّة الله تعالى، وهذا واجب علماء المسلمين في بيان وجهة النّظر في كلّ هذه النّظريات ذات الطّابع الإلحاديّ المتمثّل في الفوضى الكونية، والعشوائيّة لوجود الإنسانية.
إنّ الإلحاد المتمثّل في الإعراض عن حقيقة الخالق العظيم لهذا الكون، والذي هو نتاج التّفكير العقليّ المحدود بقدرة الإنسان على الإدراك، هو سبب التّيه والضّلال الذي يعاني منه البشر، ولقد ضلّ العلماء الغربيّون وتاهوا، ولن يصلوا إلى أيّ شيء طالما تجاهلوا حقيقة أنّ الله وحده هو خالق هذا الكون، يقول الله تعالى: ﴿ وكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥]، ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: ٤]
ثانياً: أسس ومنطلقات الفكر والمنهجية في الإسلام.
تكمن أهمّيّة العقيدة في كونها الرّكيزة والأساس التي تقوم عليها المبادئ والتصوّرات، والشّرائع، فالبشر أسرى المعتقدات والأفكار، ولكلّ أمّة من الأمم مفاهيم وتصوّرات خاصّة عن الإنسان والكون والحياة، وهي تنطلق من عقيدتها التي تؤمن بها، وتحافظ عليها
فالذين يعتقدون أنّ الله ربّهم ومعبودهم، وأنّ مصيرهم إليه، وأنّ الدّنيا معبر وطريق إلى الدّار الباقية، يقيمون حياتهم وفق شريعة الله، بحيث تهيمن هذه الشّريعة على تصرّفاتهم وأعمالهم، ومناهجهم.
والذين كفروا بالله وقالوا بأزليّة المادّة، أقاموا حياتهم وفق معتقداتهم وعملوا لهذه الحياة ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: ٢٤].
كما أنّ العقائد تستولي على أنفس أصحابهم وتدفعهم لبذل أموالهم وأنفسهم في سبيل تحقيق ما يعتقدونه، وهم راضون مطمئنّون، وهذا يُفسّر لنا السّر في انتصار أصحاب العقائد، وعدم تنازلهم عن مبدئهم على الرّغم من الآلام والمصائب التي تعترض في طريقهم.
للإسلام منطلقاته في التّفسير والتي تختلف عن منطلقات الغرب المادّي، من حيث الأصول الاعتقادية، ومن حيث المصدر أيضاً، إنّ الإنسان حين يتلقّى منهجه عن ربّه تصحّ وتتحدّد علاقته بالكون من حوله، فالمسلم ينظر إلى الوجود من خلال حقيقتين أساسيتين:
حقيقة التّوحيد: وهي خاصّة بالله تعالى ربّ العالمين، وحده لا شريك له، والذي عليه أتباع السّلف أنّ لهذه الحقيقة قسمين لا بدّ من اعتقادهما: الأوّل: عقدي، وهو: الرّبوبيّة، وتعني اعتقاد أنّ الله هو الرّبّ
الخالق، ذو الأسماء الحسنى والصّفات العلى، وأنّه المستحقّ وحده للعبادة.
ثانيهما: عملي، وهو: الألوهيّة، وهي خاصّة بأفعال العباد التي شرعها الله لهم، وكلّفهم بها تقرّباً إليه.
ولا سبيل إلى معرفة حقيقة التّوحيد إلاّ عن طريق الرّسل، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣].
إنّ الإنسان يملك وسائل المعرفة من عقل وحواس وتجربة، لكنّها لا تفيد في معرفة هذه الحقيقة كاملة، ولذا فإنّ البشريّة لمّا اكتفت بمنهج ناتج عن التصوّرات المحسوسة تخبّطت ذات اليمين وذات الشّمال، فالوثنيّون عبدوا آلهة صنعوها بتصوّراتهم المحسوسة، والفلاسفة أرجعوا الأمور إلى الطّبيعة والصّدفة.
ومن البشر من خلط المنهج الإلهيّ بالتصوّرات المحسوسة كما فعل اليهود والنّصارى، وقال الله فيهم: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١].
حقيقة العبودية: وهذه عامّة في كلّ ما سوى الله تعالى، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فالله تعالى ربّ العالمين جميعاً وجميع المخلوقات الأخرى غير المكلّفة.
والكون وهو تعبير يشمل الخليقة كلّها من سموات وأرضين، وما فيهنّ وما بينهنّ، والإنسان وما أودع الله تعالى فيه من خصائص، كلّ منهما وضح لنا القرآن الكريم حقيقته، ويستطيع أن يدرك أنّ الله تعالى سخّر له كلّ ما في الأرض وكثيراً من العالم المنظور لخدمته ومصلحته؛ ليحقّق غايته في هذه الحياة الدّنيا، ويستطيع الإنسان أن يدرك من خلال القرآن الكريم حقيقة إنسانيّته، وكيف تكون علاقته بالكون من حوله.
ثالثاً: مجمل خصائص التصوّر الإسلاميّ.
مصطلح التصوّر:
قبل الحديث عن أهمّ خصائص التصوّر في الإسلام، أحبّ أن أشير إلى أنّ أوّل مَن استخدم مصطلح التصوّر الإسلاميّ هو المفكّر الإسلاميّ أبو الأعلى المودوديّ في كتابه «الحضارة الإسلامية أسسها ومبادؤها»، وكتابه «نظام الحياة في الإسلام»، ثمّ جاء بعده الأستاذ سيّد قطب في كتابه «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام»، ثمّ كتابه «خصائص التصوّر الإسلاميّ ومقوّماته»، وكذلك استخدم المصطلح الدّكتور عثمان ضميرية في كتابه «التصوّر الإسلاميّ للكون والحياة والإنسان»، بل يعتبره مرادفاً لمصطلح العقيدة في كتابه «المدخل لدراسة العقيدة».
ولقد أثير خلاف حول سلامة مصطلح (التصوّر الإسلاميّ)، فمن المفكّرين من يرى أنّ التصوّر مصطلح يعبّر عن عمليّة ذهنيّة محضة تحتمل الصّحّة والخطأ، وبالتّالي من غير المناسب استخدام هذا المصطلح. وفي رأيي أنّ مصطلح التصوّر الإسلاميّ مناسب ولا محظور فيه؛ ذلك أنّه تصوّر مبنيّ على مقوّمات من نصوص الوحي (القرآن والسّنّة)، والتي لا يمكن أن يتسرّب إليها الخطأ، وعند اللّبس يمكن للباحث أن يحدّد مقصده من اللفظ، وما يعنيه عند استخدامه.
للإسلام خصائصه التي تتعدّد وتتنوّع، ولكنّها تتجمّع عند خاصيّة واحدة، هي التي تنبثق منها وترجع إليها سائر الخصائص، ألا وهي:
خاصيّة الرّبّانيّة: إنّه تصوّر ربّانيّ: جاء من عند الله تعالى بكلّ خصائصه، وبكلّ مقوّماته، وتلقّاه الإنسان كاملاً بخصائصه هذه ومقوّماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئاً، ولا لينقص كذلك منه شيئاً، ولكن ليتكيّف هو به وليطبّق مقتضياته في حياته.
وهو –من ثمّ –تصوّر غير متطوّر في ذاته، إنّما تتطوّر البشريّة وترتقي في إطاره، وتظلّ تتطوّر وتترقّى، وتنمو وتتقدّم، وهذا الإطار يسعها دائماً، وهذا التصوّر يقودها دائماً؛ لأنّ المصدر الذي أنشأ هذا التصوّر، هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان، هو الخالق المدبّر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطوّرة على مدى الزّمن، وهو الذي جعل في هذا التصوّر من الخصائص ما يلبّي هذه الحاجات المتطوّرة في داخل هذا الإطار.
وإذا كانت التصوّرات والمذاهب والأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم–في معزل عن هدي الله –
تحتاج دائماً إلى التطوّر في أصولها، والتحوّر في قواعدها، والانقلاب أحياناً عليها كلّها حين تضيق عن البشريّة في حجمها المتطوّر! وفي حاجاتها المتطوّرة... أقول: إذا كانت تلك التصوّرات والمذاهب والأنظمة التي هي من صنع البشر، تتعرّض لهذا وتحتاج إليه، فذلك لأنّها من صنع البشر، الذين لا يرون إلاّ ما هو مكشوف لهم من الأحوال والأوضاع والحاجات في فترة محدودة من الزّمان، وفي قطاع خاص من الأرض... رؤية فيها قصور الإنسان وجهل الإنسان، وشهوات الإنسان، وتأثّرات الإنسان.
أمّا التصوّر الإسلاميّ بربّانيّته فهو يخالف في أصل تكوينه وفي خصائصه، تلك التصوّرات البشريّة، ومن ثمّ لا يحتاج –في ذاته –إلى التطوّر والتغيّر، فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزّمان والمكان، ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور، ويختار بلا تأثّر من الشّهوات والانفعالات، ومن ثمّ يضع للكينونة البشرية كلّها، في جميع أزمانها وأطوارها... أصلاً ثابتاً تتطوّر هي في حدوده وترتقي، وتنمو وتتقدّم دون أن تحتكّ بجدران هذا الإطار.
الثّبات والتّكامل: إنّ الحركة قانون من قوانين هذا الكون –فيما يبدو –وهي كذلك قانون الحياة البشريّة –بوصفها قطاعاً من الحياة الكونية –ولكنّها ليست حركة مطلقة من كلّ قيد، وليست حركة بغير ضابط ولا نظام، فلكلّ نجم ولكلّ كوكب فلكه ومداره –وله كذلك محوره الذي يدور عليه في هذا المدار –وكذلك الحياة البشريّة لا بدّ لها من محور ثابت، ولا بدّ لها من فلك تدور فيه وإلاّ انتهت إلى الفوضى وإلى الدّمار، كما لو انفلت نجم من مداره، أو ظلّ بغير محوره بلا ضابط ولا نظام! ومن ثَمّ كان هذا التصوّر الرّبّانيّ ثابتاً؛ لتدور الحياة البشريّة حوله، وتتحرّك في إطاره، وهو مصنوع بحيث يسعها دائماً ويشدّها دائماً، وهي تنمو وترتقي، وهي تتطوّر وتتحرّك إلى الأمام.
وهو –من ثَمّ –متكامل، لا يقبل تنمية ولا تكميلاً، فهو من صنعة الله، فلا يتناسق معه ما هو من صنعة غيره، والإنسان لا يملك أن يضيف إليه شيئاً، ولا يملك أن يعدّل فيه شيئاً، إنّما هو جاء ليضيف إلى الإنسان؛ لينميه ويعدله ويطوّره ويدفع به دائماً إلى الأمام... جاء ليضيف إلى قلبه وعقله، وإلى حياته وواقعه، جاء ليوقظ كلّ طاقات الإنسان واستعداداته، ويطلقها تعمل في إيجابيّة كاملة، وفي ضبط كذلك وهداية، وتؤتي أقصى ثمراتها الطيّبة، مصونة من التبدّد في غير ميدانها، ومن التعطّل عن إبراز مكنونها، ومن الانحراف عن طبيعتها ووجهتها، ومن الفساد بأيّ من عوامل الفساد، وهو لا يحتاج –في هذا كلّه –إلى استعارة من خارجه، ولا إلى منهج غير منهجه، بل إنّه ليحتّم أن يتفرّد في حياة البشر، بمنهجه ووسائله وأدواته، كي تتناسق حياة البشر مع حياة الكون –الذي تعيش في إطاره –ولا تصطدم حركتها بحركة الكون فيصيبها العطب والدّمار!
الشّمول والتّوازن: وهو –مِن ثَمّ –شامل متوازن منظور فيه إلى كلّ جوانب الكينونة البشريّة أوّلاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقاً أخيراً، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشريّ، وإلى توازن هذه الأطوار جميعاً، بما أنّ صانعه هو صانع هذا الإنسان... الذي خلق، والذي يعلم من خلق، واللّطيف الخبير، فليس أمامه –سبحانه –مجهول بعيد عن آفاق النّظر من حياة هذا الجنس، ومن كلّ الملابسات التي تحيط بهذه الحياة، ومِن ثَمّ فقد وضع له التّصوّر الصّحيح، الشّامل لكلّ جوانب كينونته، ولكلّ أطوار حياته... المتوازن مع كلّ جوانب كينونته ومع كلّ أطوار حياته، الواقعيّ المتناسق مع كينونته ومع كلّ ظروف حياته.
وهو –مِن ثَمّ –الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كلّ مكان وفي كلّ زمان، بتصوّراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله... ليعلم أين هو من الحقّ، وأين هو من الله، وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هناك مقرّرات سابقة ولا مقرّرات لاحقة يرجع إليها في هذا الشّأن... إنّما هو يتلقّى قيمه وموازينه من هذا التصوّر، ويكيّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كلّ أمر يعرض له إلى ذلك الميزان.
قال تعالى: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: ٥٩].وفي خاصيّة التصوّر الإسلاميّ الأساسيّة –التي تحدّد طبيعته –وفي سائر الخصائص التي تنبثق منها... يرى بوضوح تفرّد هذا التصوّر، وتميّز ملامحه، ووضوح شخصيّته بحيث يصبح من الخطأ المنهجيّ الأصيل محاولة استعارة أيّ ميزان، أو أيّ منهج من مناهج التّفكير المتداولة في الأرض –في عالم البشر –للتّعامل بها مع هذا التصوّر الخاص المستقلّ الأصيل، أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصوّر الرّبّانيّ الكامل الشّامل.
إنّ التّصوّر هو عبارة عن انعكاس القيم والمفاهيم في عالم الواقع، له ثوابت لا يحيد عنها؛ لبناء الإنسان المسلم المتمسّك بعقيدته؛ لتأتي الثمرة في النّهاية، ومن هذه الثوابت ما يلي:
وجود الخالق بصفاته، وانعكاس التّوحيد على سائر جوانب الفكر والعقل.
عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، وغاية وجود الإنسان هي عبادة الله تعالى.
يكون الإيمان بالله شرطاً لقبول الأعمال وصحّتها.
الإسلام هو دين الله القويم.
الإنسان مخلوق مكرّم على سائر الخلق.
الدّنيا دار ابتلاء وعمل، والآخرة دار الحساب.
الإنسان مستخلف في الأرض، والكون مسخّر له.
الإيمان بكامل الوحي، وهو المصدر للمعرفة، والعقل وسيلة لهذه المعرفة.
الإيمان بكلّ هذه الحقائق في الزّمان والمكان والإنسان.
إنّ قيمة خاصيّة الثبات هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه المسلم وتصوّره، وبذلك تستقرّ حياته وحياة مجتمعه، وذلك مع إطلاق الحريّة للنّموّ الطبيعيّ في الأفكار والمشاعر، وفي النّظم والأوضاع، وبالتّــــــــــــالي لا جمود ولا انفلات. مِن هذا كلّه نخلص إلى أنّ المنهج الذي تلقّاه البشر مِن الله سبحانه وتعالى شامل لكلّ شيء، لم يهتمّ ببعض الأمور ويهمل الأخرى، وإنّما اشتمل على كلّ مجالات الحياة.
المبحث الأوّل
"حقائق تتعلّق بالكون في الإسلام"
يمكن أن نحدّد النّقاط التّالية؛ لإيجاز بيان الحقائق الهامّة ممّا يتعلّق بالكون:
أوّلاً: أنّه مخلوق بحكمة بالغة.
خلق الله تعالى الكون بقدرته، وبحكمة بالغة ودقّة متناهية، وجعل كلّ شيء فيه منتظماً، فكلّ صغيرة وكبيرة تنطق بذلك؛ لأنّ خالقه هو الحكيم. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: ٨ ]، وكلّ شيء في هذا الوجود يدلّ على أنّ هذا الكون من صنع صانع، وتدبير مدبّر حكيم خبير. قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ , هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [لقمان: ١٠ – ١١].
ثانياً: أنّ الكون مخلوق لحكمة وغاية.
ممّا نستفيده من معطيات القرآن الكريم وحقائقه أنّ الكون بكلّ ما فيه من أجرام وكواكب وما على الأرض من مخلوقات وإمكانيات وأوزان كلّ ذلك خلق بغاية الحكمة، وليس عبثاً ولا باطلاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: ١٩١]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ﴾ [الأنبياء: ١٦]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: ٢٧]، وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: ٨٥]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [السجدة: ٤]، وقال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٨٨].فكلّ ما في الكون وُضع في مكانه اللائق به؛ ويؤدّي دوره المرسوم له بكلّ دقّة، ليس فيه عبث ولا تقصير، قال تعالى: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [الملك: ٣].
ثالثاً: أنّ الكون مستسلم خاضع لمولاه طائع له.
إنّ الكون بكلّ ما فيه إلاّ كفّار الجنّ والإنس خاضع لمولاه مطيع له، بل يسبّح لله ويسجد له، ويستجيب للأمر الإلهيّ، لا يستطيع أن يتعدّى ذلك، قال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [الجمعة: ١]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ [النور: ٤١ ]، وقال تعالى : ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾ [الحج: ١٨].في انقياد وتسليم وطاعة وإذعان للخالق العظيم، فكلّ ما في الكون يلهج باسم الخالق العظيم.
المبحث الثّاني
" الإنسان في التصوّر الإسلاميّ"
تمهيد:
قبل أن ندرك حقيقة هذا الكائن العجيب لا بدّ م ملاحظة أمر، وهو أنّ الإنسان ذات حيّة متحرّكة، يتحرّك لأداء وظيفة وتحقيق غاية، كما قال ﷺ: «أصدق الأسماء حارث وهمّام»، فهي حقيقة تنطبق عليه تماماً ومسمّى يرتبط بالإنسان من ناحية حركته ومقاصده، ولكن المفلح من كانت حركته وهمّته تجاه الحقّ وللحقّ، كما قال النّبيّ ﷺ: «كلّ النّاس يغدون فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها».
ونستطيع نحن المسلمين بحمد الله بفضل كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا أن ندرك من الحقائق المتعلّقة بالإنسان ما لا يستطيع أحد أن يدركه، فذلك لأنّه من علم الغيب الذي لا يمكن أن يعرف إلاّ من قبل الله
عزّ وجلّ بواسطة رسول الله ﷺ. وأهمّ هذه المدارك ثلاثة أمور، وهي:
أوّلاً: الغاية من خلق الإنسان.
إنّ الغاية من خلق الإنسان قد ضلّ فيه كثير من أهل الأرض، وحاروا فيه، وكانت إجابات أصحاب الأديان المحرّفة والفلسفات متفاوتة، وكلّها مرتبطة بالحياة الدّنيا، من ناحية العيش وتحقيق المصالح والمنافع، ودفع المضار، أو نظرة منبثقة من فلسفة تشاؤميّة ترى أنّ الحياة ألم لا بدّ من التخلّص منها، ولكي تحقّق لنفسك وجوداً حقيقيّاً يجب أن تسعى لتندمج في الإله، ونحو ذلك من الفلسفات التي نبعت من تصوّراتهم ومنطلقاتهم في التّفسير.
إنّ معرفة الغاية من خلق الإنسان من أهمّ المعلومات وأخطرها وأبعدها أثراً؛ فإنّ معرفتها تحدّد للإنسان مساره، وأعماله، والجهل بها يجعل الإنسان يخبط على غير هدى، ويسير على عمى، وهو حال من حكى الله قولهم بقوله: ﴿وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [الأنعام: ٢٩]، وقال: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: ٢٤]، فهذه دعاوى من انحرف فكره، ولكن الحقيقة التي عميت عليهم أنّ الله خلق الإنسان لغاية سامية نبيلة، وهدف أسمى عظيم، ألا وهو عبادته جلّ وعلا، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦].
ولتأكيد سموّ الغاية من هذا الخلق جاء قوله تعالى موضّحاً: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧]، أي: لا أريد مِن خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرّ عنّي، فالله هو الغنيّ المطلق، والرزّاق المعطي، الذي يرزق جميع مخلوقاته ولا ينسى منهم أحداً، ويقوم بما يصلحهم، وهو صاحب القدرة والقوّة، بل هو شديد القوّة، فكيف يحتاج إليهم، وهو المتفضّل عليهم بقضاء حوائجهم.
فإذا خلقنا لغاية عظيمة وهدف سامٍ، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، فبهذا يكون الانسجام والتّناغم والتوحّد في هذا الأمر بين كلّ الكائنات، التي تسبّح الله وتسجد له وتخافه وتخشاه، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ فإذاً هذا الكثير من النّاس هو المنسجم مع الكون كلّه، وتلك الطّائفة التي انحرفت هي التي قال الله عنها: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ ، يعني أنّ هؤلاء المعرضين عن عبادة الله صاروا مهانين بذلك؛ لانحرافهم عمّا عليه الكون كلّه.
ثانياً: تميّز الإنسان
خلق الله تعالى آدم بيده، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، ونفخ فيه من روحه: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة: ٩]، وأسجد له الملائكة، ولمّا أذنب وتاب قَبـِل الله توبته، ثمّ اجتباه وهداه: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: ١٢٢]، وجعله خليفة في الأرض، وهذه الميزة شاملة لذرّيّته: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ﴾ [الأنعام: ١٦٥]، وهو أمر ملاحظ حسّيّاً بالمقارنة مع بقيّة الكائنات.
وزوّد الله تعالى الإنسان بوسائل المعرفة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [الملك: ٢٣]، وزوّده بالإرادة، فجعل للإنسان مشيئة واختياراً، قال تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: ٢٨]، وجعله مسؤولاً عن عمله الذي يختاره، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
وزوّده الفطرة التي تكون وسيلة لمعرفة الحقّ، وتمييزه، ووسيلة للاستقامة على الحقّ لو سلم من الصّوارف، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠]، وقال ﷺ: «كلّ مولود يولد على الفطرة...».
وتوّج هذا كلّه بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٠]، فتكريم الإنسان وتميّزه على سائر المخلوقات في الأرض ظاهــــــــر وواضح، وهو جزء من معرفتنا المستمدّة من كلام الله عزّ وجلّ وكلام رسوله ﷺ.
ثالثاً: الإنسان المتميّز.
إنّ ما سبق دليل على أنّ الإنسان مستخلف، وأنّه مكلّف ومتميّز، ولقد جعل الله تعالى شروطاً للاستخلاف، أهمّها الاستقامة على نهج الله وشرعه، والإخلاص في عبوديّته لله تعالى، وعدم ادّعاء شيء من خصائص الألوهيّة، وأن يجعل سعيه كلّه لله وحده، للوصول إلى الغاية التي خلقه الله لها، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ﴾ [الأنعام: ١٦٢ – ١٦٣] ، وتحكيم شرع الله الذي أنزل على رسله، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [المائدة: ٦٨].
والإنسان إذا لم يفِ بهذه الشّروط، ولم يسع لتحقيقها تعرّضت حياته للفساد، وأعماله للخسران، وتعرّض لعذاب الله، حتّى ولو أخذ بسنن الاستخلاف، التي ذكرها المولى عز وجل ،وهي السّعي والعمل، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ , إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١ – ٣].وبهذه الأساس العقديّ العظيم يتطهّر الفكر من التصوّرات الوهمية التي تخيّلها الفلاسفة ، أو ظنّها الدّارسون لأصل الإنسان قديماً وحديثاً ، فينتفي تصوّر أنّ الإنسان تطوّر في وجوده عبر سلسلة من المخلوقات الدّنيا التي تعود إلى المادّة الصّمّاء أخيراً بفعل المتغيّرات الماديّة، أو النّقلات العشوائيّة، كما ينتفي تصوّر فكر الإنسان غريزة حيوانية متطوّرة فيما يسمّى نظرية النّشوء أو التّطوّر الدارونية.وبانتفاء تفسير مجيء الإنسان إلى هذا الوجود بالصّدفة، أو نتيجة التّفاعلات العشوائية لبعض العناصر المادّيّة، تنتفي العبثية، كما قال الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: ١١٥].إنّ الإنسان المتميّز هو الذي يعتقد جازماً بأنّه ما وجد في هذه الحيـــــــــــــــــــاة إلاّ لعبادة ربّه، ويتمثل العبودية الكاملة لله، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦].وعبادة الله تتمثّل في كلّ حركة من حركات الإنسان الإيمانية البنّاءة؛ لإعمار الكون، وتحقيق كلمة الله في الأرض وتطبيق منهجه في الحياة، كما تتمثّل في شعور العبودية لله الواحد القهّار، يستقرّ في ضمير المسلم، ويكون منطلقه في أعماله كلّها، بحيث يبتغي بها وجه الله، وبذلك تكون أعمال المسلم عبادة، كأداء الشّعائر، ما دامت نيّته في حركته كلّها أنّه يعمل في سبيل الله.
فالإنسان العاقل الموفّق، هو من يسلك سبيل الهدى بعد ن بيّنه الله له ورغبة فيه، ويجتنب سبيل الضّلال الذي وضّحه له وحذّره منه، ومنحه أوّلاً وآخراً حريّة الاختيار لأيّ من السّبيلين شاء، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٣]، وقد أخرج أبو داود وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: تلا رسول الله هذه الآية ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ [الملك: ٢]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلاً»، ثمّ قال: «وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله، وأعلمكم بطاعة الله».
فمن خلال هذه الآيات وما سبقها يتبيّن لنا أنّ الله تعالى قد خلق النّاس وأوجدهم ليمتحنهم ويختبرهم أيّهم أخلص عبوديّة له، وأحسن عملاً لنفسه، مع علمه الأزليّ بما هو كائن وبما سيكون منهم.
وهنا قد نجد من يقول: لماذا الاختبار؟، ولماذا الثّواب والعقاب؟،والنّتيجة معروفة لله تعالى مسبقاً؟، والجواب: أنّ الاختبار مرتبط بعلم الله الأزليّ بما هو كائن وبما سيكون، وإنّ عقل الإنسان وسلوكه هما نواة الاختبار ومادّته، فلا عمل دون قرار وإرادة من الإنسان، ولذلك فلا حساب على مَن فقد عقله، ولولا وجود ذلك الاختبار، وظهور نتيجته، لساء العبدَ أن يُحكم سلفاً دون أن يبتلى ويُختبر. ولكن حكمة الله تعالى قضت بالامتحان والابتلاء؛ سدّاً لهذه الذّريعة على العصاة والكافرين، إنّه هو العليم الحكيم سبحانه وتعالى عن الظّلم علوّاً كبيراً. وإنّ المسلم الصّادق في وقتنا هذا، ليشعر أنّ علاقته بربّه تبقى ناقصــــــــــــة، إذا هو لم يبذل جهده لتحقيق الهدف الكبير الذي خلق الله الجنّ والإنس من أجله، ألا وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، الذي به وحده تتحقّق عبادة البشر لله، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وبه وحده يتحقّق معنى لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، في واقع الحياة.
المبحث الثّالث
"العلاقة بين الإنسان والكون في الإسلام"
إنّ العلاقة بين الإنسان والكون واضحة ظاهرة، وهي في الإسلام تتلخّص في نقاط:
أوّلاً: التّسخير وتحقيق المنافع.
الكون مخلوق لله تعالى، والعلاقة بينه وبين الإنسان علاقة تسخير، حيث سخّر الله للإنسان ما في
السّموات والأرض، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٩].
وتسخير الله للكون المنظور للإنسان ظاهرٌ واضحٌ بيّنٌ، يعرفه المسلم وغير المسلم ، فكلّ مَن نظر بعينه وعقله أدرك ذلك، فلو نظرت إلى السّماء التي تراها تدرك أنّ الله خلقها لغايات لا نعلمها، لكن من الغايات الواضحة أنّه جعلها بهجة للنّاظرين، فأعطاها لوناً في النّهار يبهج النّفوس، فلا هي صفراء فاقعة، ولا حمراء قانية، ولا سوداء داكنة، ولا بيضاء جاهرة، وإنّما صبغها بهذا اللّون الذي ترتاح له النّفوس، وفي اللّيل ملأها بالنّجوم ثريّات معلّقة، تضفي عليها بهجة وروعة، وإذا أردت أن تعرف انظُر إليها في ليلة معتمة بالغمام إذا لم يكن هناك إضاءة تعكس الضّوء من الغمام، فإنّ النّظر سيكون رهيباً مخيفاً، وفي هذه القسمة العظيمة انطلقت أشّعة الشّمس لنشر الدّفء والحياة، وانطلق ضوء القمر ليضفي على اللّيل جمالاً وسكوناً.أمّاالأرض فلا يمكن للإنسان أن يتجاهل ذلك التّسخير الواضح، بل كلّ ذرّة فيها ندرك ونعلم أنّها خلقت ووجدت لمصلحتنا وفائدتنا، فتسخير الله للكون من حولنا واضح.
ثانياً: أنّها دليل للإنسان على الخالق العظيم الرّحمن الرّحيم.
إنّ كلّ ما استطاع الإنسان معرفته مِن دقائق علم الفلك أو علم الجيولوجيا أو علم الإنسان أو علم الحيوان أو النّبات، كلّ ذلك أدّلة باهرة ظاهرة، فوق أنّها أدّلة على وجود الخالق العظيم، هي أدّلة أيضاً على أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقد صرّح الله بذلك في آيات كثيرة في كتابه، ينبّه ذهن الإنسان الغافل أو السّاهي اللاّهي أو يخوّف ويحذّر الإنسان الجاحد والمكابر، إلى أنّ كلّ ما حوله دليل على الحكيم الخبير العليم الرّحمن الرّحيم القويّ العزيز المتعال ذو القوّة والجبروت والملك والملكوت. قال تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: ٦٠ ]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: ١٦٤].ولا بدّ أن ننبّه هنا أنّ هذه المعرفة على أهمّيّتها وخطورتها غير كافية؛ لأنّ الله تعالى قد عاب على المشركين وقوفهم عندها وعدم القيام بلازمها، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١]، ثم قال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: ٦٣]؛ لأنّ المطلوب هو الإتيان بلازم هذه المعرفة وهو ما سنذكره في «ثالثاً».
ثالثاً: التّفكّر والتّدبّر لتحقيق العبودية لله تعالى.
إنّ القرآن الكريم يذكر الكون من حولنا جملة من المشاهد المخلوقة، خلقها بديع السّموات والأرض في انتظام وتناسق؛ لتحقيق أغراض، والتي من أهمّها أن يتدبّر الإنسان الكون، ويرى دقّته وتناسقه، فيتوّصل بذلك إلى الإيمان بالله، ويحقّق وحدانيّته سبحانه وألوهيّته، وينزّهه ويخلص العبودية له؛ لِما قاله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ , إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: ١٦٣ – ١٦٤]، ولذا ثبت عنه ﷺ أنّه كان إذا قام من اللّيل يرفع رأسه إلى السّماء، وقرأ هذه الآيات من آخر سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ , الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠ – ١٩١].إنّ من المهمّ جدّاً في المنهج الإسلاميّ أن يرتبط هذان المطلبان، ويكون أحدهما مقدّمة والآخر نتيجة مقدمة في: التّفكّر في هذا الكون والتعرّف على عظمة الخالق من خلاله، ثمّ القيام بلازم ذلك ونتيجته وهو: عبادة الله عزّ وجلّ ومحبّته وخشيته وتعظيمه وإجلاله –وبهذا تنسجم المطالب الإلهيّة والمقاصد الرّبّانية من وجود الكون ووجود الإنسان، ويكون كلّ منهما قد أدّى الغاية من وجوده، فالكون دليل على الخالق العظيم، والإنسان من خلال الاستدلال بالكون يعظّم الخالق ويعبده بالطّريقة التي يحبّها الله عزّ وجلّ ويرضاها، وهي التي أرسل بها رسوله محمّد ﷺ، ليس إلاّ، فالإنسان ليس كالحيوان أو سائر الجمادات التي تعبد الله بالتّسخير، وليس لها إرادة تدفع العبادة أو تمتنع منها، إنّه صاحب إرادة واختيار وخلقة تميّز بها عن سائر الحيوان، فلذا كان المطلوب منه عبادة بإرادة منه واختيار، بكيفية تتميّز عن عبادة سائر الحيوان. بقي أمر يتعلّق بالعلاقة بين الكون والإنسان، وهو:
رابعاً: عمارة الأرض وعدم إفسادها.
لم تقف العلاقة بين الكون والإنسان في الإسلام عند حدّ تسخيره والتّفكّر فيه، والاستدلال به على عظمة خالقه، وعبادة الخالق العظيم، وإنّما دفعنا أيضاً وحثّنا على عمارة الأرض واستخراج ما فيها من الخيرات والاستفادة منها، قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: ٣٢]. والإنسان من مهمّاته في الأرض عمارة الأرض، وتسخيرها لخدمته، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١]، ومن الشّكر بأنعم الله أن يستخدم الإنسان طاقته الحيوية وما أودع الله فيه من قدرات وإمكانات في عمارة الأرض، بالتّنقيب عن كنوزها والتّعرّف على رزق الله الواسع فيها، واستغلال ذلك كلّه لترقية الحياة وتنميتها؛ لأنّ الأرض خلقت له، فعليه إصلاحها، والكدّ والجدّ في الاستفادة ممّا أودع الله فيها، واستمع إلى قول النّبيّ وهو يربط بين الجدّ والكدّ والحرص على المنفعة، وبين الإيمان ومحبّة الله عزّ وجلّ، وذلك في قوله : «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».
وممّا هو مرتبط بهذا الأمر أنّ الواجب على المسلم، بل النّاس كلّهم الإصلاح وعدم الإفساد، والواجب عليهم البناء لا الهدم، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ﴾ [الأعراف: ٥٦]، والإفساد في الأرض هو الذي خشيته الملائكة عليهم السّلام لمّا أخبرهم الله عزّ وجلّ أنّه جاعل في الأرض خليفة، قالوا: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠].فالإفساد في الأرض كما يكون بنشر الكفر وعدم الإيمان بالله، يكون أيضاً بنشر الشّرور والخوف والقتل والتّدمير وإهلاك الزّروع والضّرع، كلّ ذلك من الإفساد المنافي للأمر الرّبّانيّ بعمارة الأرض وعدم إفسادها.
هذه مقتطفات مختصرات لهذه الحقائق الكبرى المرتبطة بالكون والإنسان، والعلاقة بينهما، أرجو من الله عزّ وجلّ أن أكون وفّقت لعرضها بالصّورة المفيدة والنّافعة.
الخاتمة
أختم بحثي بالنّتائج التّالية:
إنّ النّظريات والتصوّرات الوافدة من الغرب مرفوضة ابتداءً؛ لأنّها نبعت من عقائد مخالفة لعقيدة التّوحيد.
للإسلام تفسيره وتصوّره الخاص للكون والإنسان، وهو تفسير يخالف الفلسفات القديمة والحديثة والمعاصرة.
للإسلام منطلقاته في الفكر والمنهجية، والتي تختلف عن منطلقات الغرب المادّي من حيث الأصول الاعتقادية، ومن حيث المصدر.
العقيدة الإسلامية تقدّم لنا التّصوّر الإسلاميّ للكون والحياة والإنسان، ومن ثَمّ كان تفسير العقيدة للكون والحياة والإنسان، والتّصوّر الإسلاميّ للكون يتضمّن توحيد الرّبوبيّة، كما أنّ التّصوّر الإسلاميّ للحياة والإنسان يتضمّن توحيد الألوهيّة، ولذا فإنّ التّصوّر الإسلاميّ للوجود هو الأصل للمعرفة ونظرية البحث في هذه العلوم الإنسانية.
جاء الإسلام ببيان حقيقة الإنسان ومميّزاته، وما فضّل به ومهمّته في الحياة، وعلاقته بالله، وعلاقته بالكون.
في الإسلام يؤمن المرء أنّ هذا الكون مسخّر له بقدرة الله، فالكون هو ميدان فكره، وميدان عمله، ومخزن رزقه، ووسيلته في تحقيق عمارة الأرض والاستخلاف.
وهنا توصيات أحبّ ذكرها، وهي:
أن يحرص على ربط هذه العلوم بمقاصدها العظمى، وهي معرفة الله عزّ وجلّ، وعبادته.
أن يحرص على التّأكيد على أنّ العلوم التي برز فيها المسلمون، إنّما هي نتيجة للأخذ بهذا الدّين المنزّل، كيف لا وأوّل آية نزلت منه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١ – ٥]، فانظر هذا التّرابط البديع بين المعبود والعلم ووسيلة العلم وغاية العلم.
أن يحرص على التّأكيد على أنّ أعظم ما قدّمه المسلمون العرب وحملوه للعالم أجمع هو هذا القرآن وهذه السّنّة وهذا الدّين؛ لأنّ العلوم الدنيوية مع ما فيها من الخير وتحقيق الرّفاهية، إلاّ أنّها علوم يستطيع كلّ أحد تحصيلها، والبروز فيها، مع الجدّ والاجتهاد، وسواء كان ذلك الشّخص مسلم أو يهوديّ أو نصرانيّ أو حتّى وثنيّ أو ملحد، لكن غايتها مصلحة دنيوية أو سعادة دنيوية، أمّا السّعادة الأخروية وهي الغاية، فلا تتحقّق لأحد إلاّ أن يأخذ بهذا الدّين ويلتزم به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥].
لا بدّ من إعادة كتابة العلوم الكونية بصياغة جديدة تنبع من عقيدة التّوحيد، تبرز آيات الله الكونية الدّالة على صفاته وأسمائه الحسنى، وربط هذه الآيات الكونية بحقيقة الألوهية والرّبوبيّة.
وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع:
أولاً: قائمة المراجع العربية
الأجزاء الكونية بين النّقل والعقل، عبد العزيز الخلف، 1389هـ.
أسرار الكون في القرآن، داود السعدي، بيروت، دار الحرف، 1420هـ.
الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية، الندوي، 1406هـ.
الإسلام في مواجهة الفلسفات القديمة، أنور الجندي، بيروت، دار الكتاب، 1987م.
الإسلام ونظرية دارون، محمد باشميل، ط1، بيروت، شركة الطّبع والنّشر، 1384هـ.
الأصول الاعتقادية للمعرفة، فاروق الدسوقي، 1412هـ.
الإعجاز الفكري في القرآن، السيد الجميلي، ط1، بيروت، دار ابن زيدون، بدون تاريخ.
تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، ط5، القاهرة، مصر، دار المعارف، 1986م.
تأصيل الإعجاز العلمي، ضمن أبحاث المؤتمر العالمي الأوّل للإعجاز، 1408هـ.
حقيقة الفكر الإسلاميّ، عبد الرحمن الزنيدي، دار المسلم، 1422هـ.
حوار بين الإلهيّين والمادّيين، محمد الصادقي، ط2، بيروت، دار التّراث، 1987م.
الدّين في مواجهة العلم، وحيد الدين خان، 1392هـ.
الرّد على الدّهريّين، جمال الدين الأفغاني، القاهرة، دار الكرنك، بدون تاريخ.
السّنن الإلهية في الحياة الإنسانية، شريف الخطيب، ط1، الرّياض، مكتبة الرّشد، 1425هـ.
صحيح مسلم بشرح الإمام النّوويّ، مسلم، بيروت، دار المعرفة، 1414هـ.
صراع مع الملاحدة، عبد الرحمن حبنكة، ط4، دمشق، دار القلم، 1405هـ، كواشف زيوف، ط1، دمشق، دار القلم، 1405هـ.
العلمانية، سفر الحوالي، ط1، مركز البحث العلمي، مكّة، 1402هـ.
الفلسفة المادّية، عبد الوهاب المسيري، ط1، بيروت، دار الفكر، 1423هـ.
في سبيل موسوعة فلسفية، مصطفى غالب، فيثاغوري، بيروت، مكتبة الهلال، 1987م.
القرآن الكريم والعلم العصريّ، موريس بوكاي، دار المآثر.
قصّة الإيمان، نديم الجسر، ط3، بيروت، المكتب الإسلاميّ، 1389هـ.
قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود، ط1، القاهرة، مكتبة النّهضة المصريّة، 1998م.
كبرى اليقينيات الكونية، مجمد سعيد البوطي، ط6، بيروت، دار الكتاب، 1399هـ.
الكون والأرض والإنسان في القرآن العظيم، رجا عرابي، بيروت، دار الخير، 1415هـ.
الكون والإنسان في التصوّر الإسلامي، حامد قنيبي، ط1، الكويت، مكتبة الفلاح، 1400هـ.
الله ذاتاً وموضوعاً، عبد الكريم الخطيب، ط3، بيروت، دار المعرفة، 1395هـ.
الله والعلم الحديث، عبد الرازق نوفل، 1393هـ.
الله يتجلّى في عصر العلم، مجموعة من العلماء، 1968م.
محاضرات في الفلسفة اليونانيّة من سقراط، منى عبد الرحمن المولد، القاهرة، مطبعة السّلام.
مصرع الدارونية، محمد يوسف، ط1، جدّة، دار الشّروق، 1403هـ.
مقال (محاور الإلحاد في الحضارة الغربية)، محمد الريفي، 2006م، شبكة فلسطين للحوار.
موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر.
الموسوعة الفلسفية، مجموعة، مراجعة زكي نجيب محمود، بيروت، دار القلم، بدون تاريخ.
النشوء الكون والمجموعة الشّمسيّة، واشق المطوري، مقال، جامعة البصرة، 2008م، موقع جيولوجيا وادي الرّافدين.
اليهودية، أحمد شلبي القاهرة، 1982م.
ثانياً: قائمة المراجع الأجنبية والمرومنة:
A study of early Christianity. Joseph Tyson. Newyork .1973.
The Greek Atomists and Epicurus. Bailey c. Oxford.1982.
الفهرس
|
العنوان |
الصفحة |
|
الملخص |
88 |
|
Abstract |
88 |
|
مقدمة |
90 |
|
تمهيــــــــــــــــــد |
91 |
|
أوّلاً: النّظريات السّابقة عند الأمم للكون والإنسان: |
91 |
|
ثانياً: أسس ومنطلقات الفكر والمنهجية في الإسلام. |
96 |
|
ثالثاً: مجمل خصائص التصوّر الإسلاميّ. |
98 |
|
المبحث الأوّل: "حقائق تتعلّق بالكون في الإسلام" |
101 |
|
أوّلاً: أنّه مخلوق بحكمة بالغة. |
101 |
|
ثانياً: أنّ الكون مخلوق لحكمة وغاية. |
101 |
|
ثالثاً: أنّ الكون مستسلم خاضع لمولاه طائع له. |
102 |
|
المبحث الثّاني: " الإنسان في التصوّر الإسلاميّ" |
102 |
|
تمهيد |
102 |
|
أوّلاً: الغاية من خلق الإنسان. |
103 |
|
ثانياً: تميّز الإنسان |
104 |
|
ثالثاً: الإنسان المتميّز. |
105 |
|
المبحث الثّالث: "العلاقة بين الإنسان والكون في الإسلام" |
106 |
|
أوّلاً: التّسخير وتحقيق المنافع. |
106 |
|
ثانياً: أنّها دليل للإنسان على الخالق العظيم الرّحمن الرّحيم. |
107 |
|
ثالثاً: التّفكّر والتّدبّر لتحقيق العبودية لله تعالى. |
108 |
|
رابعاً: عمارة الأرض وعدم إفسادها. |
108 |
|
الخاتمة |
110 |
|
المراجع |
112 |
