جامعة أكاديميون العالمية AIU :: قيم التعايش في صحيفة المدينة ودورها في حماية الوطن
تقاطعنا مع

قيم التعايش في صحيفة المدينة ودورها في حماية الوطن


تفاصيل البحث

 






قيم التعايش في صحيفة المدينة ودورها في حماية الوطن

آلاء بنت أحمد زاهد


The values of coexistence in Al-Madina newspaper and its role in protecting the nation.

Alaa bint Ahmed Zahid

0506333601/ Alaazahid24@gmail.com


 

الملخص

يتحدث البحث عن أهمية التعايش والتعارف وقبول الآخر كركيزة أساسية في بناء المجتمعات. ويستشهد بآيات قرآنية تؤكد على تشجيع التعارف والتعايش بين الأفراد والشعوب. كما يشير إلى أهمية قيم التعايش في صحيفة المدينة النبوية في حماية الوطن وتعزيز الأمن المجتمعي.

فيذكر أن النبي محمد ﷺ وضع دستورًا لدولته في المدينة المنورة، وهو أول وثيقة عالمية تنظم التعايش وتحفظ حقوق الناس. يتمحور الموضوع حول فهم مفهوم التعايش، وتاريخ كتابة صحيفة المدينة، والقيم الموجودة فيها، ودور هذه القيم في حماية الوطن.

تم استخدام المنهج التاريخي والاستنباطي والتحليلي في هذا البحث، وتمت استعراض بعض الدراسات السابقة التي تناولت بعض الجوانب المتعلقة بصحيفة المدينة.

فيستعرض البحث ذلك من خلال مقدمة وأربعة مباحث، توضح مفهوم التعايش وأهميته وأهدافه، وتاريخ صحيفة المدينة وأسماءها، وقيم التعايش في الصحيفة، ودور هذه القيم في حماية الوطن.

يعد الموضوع مساهمة في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وقيم التعايش من خلال استقاء التاريخ الإسلامي وصحيفة المدينة كمصدر رئيسي للمعلومات والقيم. ويسعى البحث لتسليط الضوء على سماحة الإسلام ورحابته وقدرته على تسهيل التعايش وتعزيز القيم الإنسانية.

كلمات مفتاحية: القيم الإنسانية، صحيفة المدينة النبوية، حماية الوطن، التاريخ الإسلامي، حقوق الإنسان، القيم التعايشية.

Abstract:

The research discusses the importance of coexistence, understanding, and accepting others as fundamental pillars in building communities. It cites Quranic verses that encourage acquaintance and coexistence among individuals and nations. It also highlights the significance of coexistence values in the Medina Charter, emphasizing its role in protecting the nation and enhancing societal security.

The research mentions that Prophet Muhammad (peace be upon him) established a constitution for his state in Medina, which was the first global document regulating coexistence and safeguarding people\'s rights. The topic revolves around understanding the concept of coexistence, the history of writing the Medina Charter, the values it contains, and the role of these values in protecting the nation.

The research utilized historical, deductive, and analytical methods. It reviewed previous studies that addressed various aspects related to the Medina Charter. It presents this information through an introduction and four chapters, explaining the concept, importance, and objectives of coexistence, the history and names of the Medina Charter, the values of coexistence in the charter, and the role of these values in protecting the nation.

The topic contributes to establishing principles of human rights and coexistence values by drawing from Islamic history and the Medina Charter as a primary source of information and values. The research seeks to shed light on the tolerance, openness, and ability of Islam to facilitate coexistence and promote human values.

Keywords: human values, the Medina Charter, homeland protection, Islamic history, human rights, coexistence values...


 

مقدمة:

جاءت رسالة محمد  خاتمة الرسالات السماوية، أسس بها أعظم حضارة عرفتها البشرية، تتلمذ أبناؤها في مدرسة محمد ، فكانت خير أمة اُخرجت للناس، وكان منهجها الإسلامي منهج شامل لكل نواحي الحياة، يهدي الناس إلى الخير، ويهذب طبائعهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [سورة المائدة: 16] ، وإن من قواعد الدين الإسلامي التي دلت عليها الأدلة وجوب ائتلاف، والنهي عن الفرقة والاختلاف، وفي عصر تعددت فيه الأديان والمذاهب والتوجهات الفكرية، تبرز أهمية استقرار المجتمعات، والوحدة الأمنية في الأوطان، وإن من أبرز عناصر الاستقرار كيفية التعايش والتعامل مع المخالف على تنوع مشارب الخلاف وأسبابه، لأن الاختلاف سنة كونية، فقد قال الله في محكم كتابه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة هود: 118-119]  ، فمن لوازم تسوية الاختلاف ضرورة التعايش بما لا يتعارض مع الأصول والثوابت.


 

المبحث الأول

" التعايش مفهومه وأهميته وأهدافه"

أسسَ الإسلام ثقافته على قيم إنسانية تدعو إلى تعايش الناس رغم اختلافهم وتعددهم اتجاهاتهم، حيث تم التأكيد على اختلاف الناس، وحريتهم في التدين والاعتقاد () في مواطن كثيرة من كتاب الله  وسنة رسوله ، وللتعايش في الإسلام خصوصيته لارتباطه بالدين وتأسيس العلاقات الإنسانية التي تنبغي دون تقارب أو ذوبان.

وفيما يلي يتحدث المبحث بإيجاز في مطالبين عن تعريف التعايش وأهميته وأهدافه.

المطلب الأول: تعريف التعايش

تعددت الطرق والمشارب في تعريف التعايش فكل أهل علم فن يُعرفه من زاويته ومنطلقه، فهو في اللغة من تعايشوا وعاشوا على الألفة والمودة، والعيش معناه الحياة ()، والتعايش المعَايشة عاش معه أي كقولهم عاشرة والغالب في التعايش أن يكون بمودة ()، وإنهم المتعيّشون إذا كانت لهم بُلغة من العيش، وإنهم عائشون إذا كانت حالهم حسنة، وتعايشوا بألفة ومودة ().

أما في الاصطلاح فيعرف بأنه: "اتفاق طرفين على تنظيم وسائل العيش، فيما بينهما وفق قواعد يحددانها وتمهيد السبل المؤدية إليه"()، ويعرف أيضًا بأنه: "الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثقافي ولأشكال التعبير والصفات الإنسانية المختلفة"().

أما التعايش السلمي فهو: "إحساس الفرد بالأمان والطمأنينة داخل مجتمعه ويترجم ذلك من خلال واقع حياتي مُعاش برغم تنوع فئاته واختلافها مما يحقق السلام الاجتماعي مهيئاً بذلك مناخاً جيدًا لتنمية المجتمع واحترام خصوصية الآخر والمحافظة على القوانين والأعراف ومرعاه مبادئ حقوق الإنسان"() وبتعريف آخر: "تعبير يراد به خلق جو من التفاهم بين الشعوب بعيداً عن الحرب والعنف"().

إن مفهوم التعايش من منظور إسلامي ينطلق من قاعدة عقائدية () لذا يمكننا تعريفه بأنه: جملة القيم والآداب والمعارف والسلوكيات والتنظيمات التي تساعد على خلق جو من التفاهم والتقارب بين أبناء المجتمع الواحد رغم اختلاف عقائدهم، وثقافاتهم، وأفكارهم، وقيمهم، بما لا يتعارض مع أنظمة وقوانين مجتمعهم، ولا يُنافي أصول الدين الإسلامي وتعاليمه.

خلاصة القول: إن لمفهوم التعايش في الإسلام خصوصية مميزة ذلك لأنه ينطلق من قاعدة عقدية، وله شواهده التاريخية من السيرة النبوية، فله مرجعية قوية أصيلة ثابته صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، مناسبة لمقتضى جميع الأحول، وفي المطلب الثاني ستبرز أهمية التعايش وأهدافه.

المطلب الثاني: أهمية التعايش وأسسه وأهدافه

قيم التعايش من المشتركات الإنسانية في جميع الأديان، فقد تختلف الشرائع وطريقة أداء العبادات وفق الزمان والمكان، ولكن الأخلاق والقيم التي تكون أساساً للتعايش لم تختلف في أي شريعة من الشرائع()،  وعلى آثار الانفتاح الثقافي والمعلوماتي والتقني الذي تَعِيشهُ المجتمعات اليوم ونظراً لكثرة الحروب والنزاعات والصرعات المتفشية في المجتمعات المحلية والعالمية، وجب على المسلمين البحث عن سبل مشتركة للتعايش مع الآخر منطلقين من الثوابت الدينية، مستقين أحكامهم وتشريعاتهم من كتاب الله تعالى، ومنهج النبي  في التعايش مع الآخر.

وفيما يلي يتحدث المطلب عن أهمية التعايش وأسسه.

أولاً: أهمية التعايش

في ظل ظاهرة الفرقة والاختلاف والتفكك الذي تعيشه بعض المجتمعات الإسلامية خاصة والإنسانية عامة تبرز أهميةُ التعايش لتحقيق السلام فهو من أهم القيم التي نادت به الشريعة الإسلامية، وتنبر أهمية من خلال ما يلي:

1-توضيح عظمة هذا الدين وسمو حضارته وسماحة تشريعاته، وفضل حضارته على الحضارات القديمة والمعاصرة ()، وذلك من خلال الوقوف على نصوص القرآن الكريم والسيرة النبوية، واستناط المنهج النبوي في التعامل والتعايش مع الآخر.

2-أن البشرية جمعاء في حاجة إلى تأكيد منظومة القيم الإنسانية، والإيمان بالتنوع الحضاري والثقافي، والانطلاق للعيش معاً من خلال المشترك الإنساني بين البشر جميعاً، فالتعايش والتعارف من صميم أهداف الأديان السماوية جميعاً ()، والدين الإسلامي خصوصًا، ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [سورة الحجرات: 13].

3-التعايش ضرورة مدنية فالإنسان مدني بطبعه مطبوع على الافتقار إلى جنسه ()، ولن يتحقق الاستقرار في المجتمع إلا إذا وضعت الآليات والضوابط والشروط المؤدية إلى التعايش السلمي.

4-توضح قوانين التعايش وقيمه ضوابط للتعامل مع المخالف فيساهم ذلك في تسهيل التفريق والتمييز بين المسالمين والمعاندين منهم()، وقد فصل المولى في ضوابط التعامل مع المخالف المعاند حين قال: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة: 8-9].

5-تساعد قيم التعايش على فتح المجال أمام الدعوة إلى دين الإسلام وإبراز أصالة وقيم الإسلام مع غيرهم، فالدعوة بالحسنى من أول وسائل الدعوة التي أمرت بها الشريعة الإسلامية قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل: 125].

6-يؤدي التعايش إلى احترام الأصول والثوابت ويقضي على أسباب النزاع والاختلاف.

7-في التعايش حفظ للحقوق ومنح الحريات التي كفلها الشرع لغير المسلمين.

8-أن التعايش يساهم في تحقيق المصالح الدنيوية بشكل واسع، فتتكامل مصالح المجتمع الواحد مع باقي المجتمعات المخالفة في الديانات والعقائد.

9-في زمن الانفتاح المعلوماتي والثقافي يساهم التعايش في الاستفادة مما لدى غير المسلمين من جوانب التقدم الحضاري ()، والإفادة مما لدى المسلمين من تقدم أيضاً.

10-في زمن تعددت فيه الاتجاهات الفكرية، والمذهبية، وتنوعت فيه الديانات الباطلة، لا بد من البحث عن وسائل لاستقرار المجتمعات على تنوعهم واختلاف عقائدهم، وهذا من أبرز أهداف التعايش فهو يهدف لخلق جو من المودة والألفة بين أبناء المجتمع الواحد.

ثانياً: أسس التعايش مع الآخر وضوابطه:

وضع الشارع الحكيم أسسًا وضوابط في التعامل والتعايش مع الآخر من أبرزها:

1-الاعتزاز بالانتماء للإسلام، والشعور بالقوة وبأن لأمة الإسلامية أمة عزيزة لها الغلبة ()، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ [سورة آل عمران:139]، فيستقر في قلب المسلم علو الدين الإسلامي وتفرده عن بقية الأديان والمذاهب ().

2-عدم الخضوع والاستسلام للمعتدي، الذي يعتدي على المسلمين وكرامتهم وأوطانهم، وأعراضهم وعقيدتهم وعبادتهم وشريعتهم ().

3-احترام الأصول والثوابت الإسلامية، فلا ينبغي التعدي على الأصول الثابتة الواردة في الكتاب والسنة، والمستنبطة من اجماع الأمة في أي عصر من العصور كان، مع التقيد بالشرع فيما أباح أو حرم من معاملة الكفار () قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة: 8-9].

4-أداء الحقوق ومنح الحريات التي جاء بها الشرع الحكيم، المؤدية إلى حفظ الكرامة الإنسانية، وصون الكليات الخمس التي نادت بحفظها الشريعة الإسلامية من حفظ للدين، والمال، والعقل، والنفس، والعرض.

5-التعامل بالأخلاق الحسنة فيما بينهم ()، وهي من آكد الأسس التي وضعها الدين الإسلامي، لتكون من أول الوسائل في الدعوة إلى الله، وأسلوباً من أساليب حوار المخالف قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت :46]

6-التعاون بين أفراد المجتمع المتعايش بألفة على تحقيق المصالح الإنسانية، وتكوين مجتمع متجانس متآلف متقبل للاختلاف، فالتعاون قيمة تكافلية اجتماعية ضرورية لرقي المجتمعات قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [سورة المائدة :2].

8-حفظ الدين وصون العقيدة، والتحصن من الشبهات الفكرية ()، والرد عليها بالردود العلمية الممنهجة المستنبطة من الكتاب والسنة.

من خلال ما سبق يظهر لنا: أن الإسلام لم يأمر أو يدعو إلى التعايش المنفتح غير المقيد المؤدي إلى الذوبان ومسخ الهوية، بل دعا إلى التعايش الممنهج، فوضع ضوابط وشروط واضحة للتعايش مع المخالف، ضمن أطر معينة، بضوابط شرعية، ضارباً لنا أمثلة حية للتعايش مع المخالف ومن ذلك صحيفة المدينة التي هي بؤرة الحديث فيما يلي.

المبحث الثاني

"صحيفة المدينة أسماؤها، تاريخ كتابتها، وسندها"

مثلت وثيقة المدينة فتحاً جديداً في تاريخ البشرية، حيث كانت بمثابة الدستور الذي نظم قواعد العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة في ظل تعايش سلمي()، ورسمت العهود والمواثيق التي وقَّعها النبيُّ  وخلفاؤه من بعده المعالمَ الرئيسة لكيفيَّة التعامل، والتعاقد، والشراكة، والتكامل، والتعارف، والتوافق، مع الشركاء في الوطن الواحد، وهو اعترافٌ صريحٌ مباشرٌ بإقرار التنوُّع العقدي والفكري والقومي والعرقي في الإسلام، ودليلٌ قويٌّ على الفضاء الواسع للقيم الإسلاميَّة وإنسانيَّتها، وهو فضاءٌ لا يحدُّه الزمان والمكان، ومن هنا تأتي أهميَّة هذه الوثيقة().

وفيما يلي توضيح وبيان لأسماء هذه الصحيفة وبيان سندها

المطلب الأول: أسماء صحيفة المدينة وتاريخ كتابتها.

أولاً: أسماء صحيفة المدينة

وثيقة المدينة هي أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقات بين أفراد الجماعة السياسية، فهي ضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرفية، فهي عقد مواطنة متقدم على عصره في بيئة تفشى فيها النزاع والجهل ().

وبالنظر في الأسماء الواردة لصحيفة المدينة نجد انها على قسمين: 

القسم الأول: ذكر في نص الصحيفة بمسمى الصحيفة وقد ورد في عدة مواضع فقد ورد في عدة مواضع منها: "أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة"() ومما ورد أيضاً: "أن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره"().

أما المسمى الثاني فهو الكتاب وورد عند المتقدمين كابن إسحاق وابن كثير، يقول ابن إسحاق: "وكتب رسول الله كتابًا بين اليهود والأنصار ووادع فيه اليهود"().

القسم الثاني: ما أطلقه المعاصرون والمستشرقون وهي: الوثيقة والدستور، وقد استخدمت بدلالات مختلفة.

فالوثيقة: وهي من الاصطلاحات المعاصرة فالعرف السائد اطلاق على ما يتعلق بتنظيم العلاقات الدولية اسم الوثيقة، أما الدستور: فهو من الاصطلاحات التي أطلقها المتأخرون الذين درسوا الوثيقة من الناحية الدستورية ().



ثانياً: تاريخ كتابة الوثيقة

اختلف الباحثون في تحديد وقت كتابة الوثيقة على ثلاثة أقوال ():

القول الأول: أنها كتبت في السنة الأولى للهجرة قبل معركة بدر وهي وثيقة واحدة ().

القول الثاني: أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، ولكنهم اختلفوا في تاريخ كتابتها، أحدهما كتبت في موادعة اليهود وكانت قبل بدر، والأخرى تناولت التزامات بين المهاجرين والأنصار وكتبت بعد بدر ثم جمع المؤرخون بينهما ().

القول الثالث: أن الوثيقة في الأصل مجموعة من الوثائق كتبت في أوقات متباينة ثم دمجت في وثيقة واحدة ().

بالتأمل فيما سبق يتبين لنا اختلاف المؤرخين في اسم الصحيفة وتاريخ كتابتها، واعتمدت الباحثة القول الأول في المسـألتين لتعاضد النصوص التاريخية المثبتة لها.

المطلب الثاني: سند صحيفة المدينة

للوثيقة أهمية تشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث لبيان درجة قوتها وضعفها، وما ينبغي التساهل فيها كما يفعل مع الروايات التاريخية ().

فقد اعتمد عدد من الباحثين على أصل الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، غير أن يوسف العش قال بأنها موضوعة فلم تروى في كتب الفقه والحديث، بل أوردوها بدون اسناد.

والحقيقة أن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملاً هو محمد بن اسحق (151ه) لكنه أوردها بدون اسناد، وصرّح بنقلها عنه ابن كثير وابن سيد الناس، كما أنها وردت في كتاب الأموال () من طريق الزهري، هذه الطرق التي أوردت الوثيقة بنصها الكامل، وبالتطابق الكبير بين سائر الروايات سوى في بعض التقديم والتأخير أو الاختلاف في بعض المفردات وهذا لا يؤثر على مضمونها العام.

لقد ذهب العش إلى ذلك لأنه تصور بأن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحاق ولم يعثر على سندها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني، لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهري وهي طريق مستقلة لا صلة لها بكثير المزني.

وقد ذكر البيهقي اسناد ابن إسحاق للوثيقة من الجهة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة باليهود، ولكن لا يمكن الجزم بأن ابن إسحاق أخذ البنود المتعلقة باليهود من هذا الطريق أم من طرق أخرى.

كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها موضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصها كاملاً، فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة تغطي العديد من بنودها، بذلك يتبين أن حكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة بمجموعها لا ترتقي إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، فإن ابن إسحاق في سيرته رواها دون اسناد مما يجعل روايته ضعيفة، وأوردها البيهقي عن طريق ابن إسحاق بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط، كما أن ابن إسحاق من أبرز تلاميذ الزهري الذي أوردها بطريق آخر. كذلك نجد نصوصاً كثيرة من الوثيقة وردت بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هي أحاديث صحيحة وقد احتج بها بعض الفقهاء وبنو عليها أحكامهم ().

خلاصة القول:

أولاً: الوثيقة بمجموعها تصلح للدراسة التاريخية التي لا تطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، لكنها لا تصلح للاحتجاج بها في أحكام الشريعة سوى ما ورد منها في كتب الأحاديث الصحيحة.

ثانياً: إن كتب السيرة ومصادر التاريخ ذكرت موادعة النبي ﷺ لليهود وكتابته كتابا بينه وبينهم، كما ذكرت كتابته كتابًا بين المهاجرين والأنصار، كذلك إن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها فالتشابه كبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي ﷺ يعطيها توثيقاً آخر ().

ثالثًا: وردت هذه الوثيقة من طريقين أولهما طريق محمد بن إسحق وعنه نقل ابن هشام وابن كثير وغيرهما ()، والآخر من طريق محمد بن شهاب الزهري وعنه نقل أبو عبيد وابن زنجويه ()، وهكذا تعددت طرقها.

رابعاً: إذا كان ابن اسحق من أبرز تلاميذ الزهري فإنه ثمة احتمال بأن يكون قد أرود الوثيقة من طريقه ().

خامساً: أن بعض نصوص الوثيقة واردة في الصحيحين بأسانيد متصلة، مما يعطي الوثيقة القوة.

سادساً: أن الوثيقة وردت من عدة طرق تتضافر في اكتسابها القوة.

أما نص الوثيقة فقد جاء في كتب السير ما نصه: كتب رسول الله ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم جاء فيها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي  بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون، بينهم، وهم يفدون عانيهم() بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا() بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة() ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد رسول الله ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره()، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة. مع البر المحض؟ من أهل هذه الصحيفة. قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق: وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله "().

المبحث الثالث

"قيم التعايش () في صحيفة المدينة"

إذا كان المجتمع الواحد منقسم إلى مذاهب وثقافات مختلفة فلا بد أن يجتمع المواطنون ويقرون المبدأ الذي هم متفقون عليه، أن يبقوا في وطن واحد، ثم ينظرون إلى الكيفية التي يحققون بها هذا الهدف، ويبحثون عن قيم تعايش تربطهم جميعًا ()

يقول جيور جيو (): "حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً كلها من رأي رسول الله، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان، وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد من الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل العدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده" ()

الوثيقة تمثل أول تقرير في قوانين العرب السياسي بالاعتراف بالآخر بصفته وحدة واحدة في أمة واحدة بالمعنى السياسي والاجتماعي رغم كونه أمة أخرى بالمعنى الديني والعقدي، كما تقرر هذه الوثيقة جواز الانضمام لكل من يريد الالتحاق بالأمة ولو من خارج الدولة ().

وقد تخففت في هذه الأمة حواجز الأجناس واللغات وعصبيات النسب والسلالات وتحققت غاية الأمة، وتم إنهاء أي صراع يتعرض السلام الداخلي ().

وفيما يلي استنباطات للقيم الدينية والاجتماعية والسياسية الواردة في صحيفة المدينة.

المطلب الأول: القيم الدينية في صحيفة المدينة:

إن دراسة الحديث النبوي والسيرة النبوية تعطينا فكرة واضحة على التطبيق النبوي الشريف للأسس الأولية للتعايش كان واضحًا جداً في تعامل النبي ﷺ مع مجتمع المدينة فمن خلال وثيقة المدينة تظهر لنا المعطيات التالية:

حرية الاعتقاد والتعبد في صحيفة المدينة.

انطلقت استراتيجية التعايش من أرض عقائدية، حيث توجهت الدعوة الإسلامية بالنداء الإلهي إلى أهل الكتاب داعية إياهم للالتقاء على كلمة التوحيد في مقابل الشرك، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ [سورة آل عمران: 64]

هذا النداء يشكل أول نداء عالمي للتعايش السلمي بين المجتمعات المختلفة عمل رسول الله ﷺ على تطبيقه في حياته العملية وذلك حينما قننه في دستور دولته التي أعلنها في المدينة بعد هجرته إليها ()، فصحيفة المدينة تقر على حرية الديانة المبنية على إرادة حرة مختارة ()، ويظهر ذلك في قوله  "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"().

إن من عظمة الإسلام عدم الإكراه على الدخول في دين الله قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [سورة البقرة: 265] ، ومن اللافت أنَّ النبيَّ ﷺ يضع هذا البند على رأس  هذه الوثيقة، ذلك أنَّ العقيدة التي استطاعت أن تجمع هؤلاء المتفاوتين تحت ظلالها هي المشترك الأسمى الذي قد يتخلَّى الإنسان في سبيل التمسُّك به، على عوامل عدَّة كالأرض كما فعل المهاجرون؛ فقد هاجروا من مكَّة حيث الوطن والأهل والعوامل الثقافيَّة والتاريخيَّة إلى المدينة حيث المشترك الأسمى العقيدة()، وحرص النبيُّ   على تنفيذ هذا البند على اليهود أنفسهم، فكما أنَّ للمسلمين مشتركهم الأسمى الذي يربطهم فكذلك حرص على عدم المساس بعقيدة اليهود؛ ذلك أنَّ كلَّ إنسانٍ يملك الحريَّة التامَّة في اعتناق ما يراه مناسبًا له من رؤًى وتصوُّرات ومعتقدات؛ "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" ()، وهكذا أيقن النبيُّ  أنَّ المساس أو التصادم بالدين لا يخدم ما يصبو إليه من التعارف والتعايش بين الأطياف المختلفة في المجتمع الائتلافي الجديد؛ ذلك أنَّ العقيدة هي أهمُّ المكونات للهويَّة الفرديَّة والجماعيَّة، وإنَّه من الصعب أن يتخلَّى الإنسان عن هويَّته، لا سيَّما إذا حدث ذلك بالقهر والظلم().

المطلب الثاني: القيم الاجتماعية في صحيفة المدينة

إن المتأمل في صحيفة المدينة يجد أنها حوت على العديد من القيم الاجتماعية من أبرزها المساواة، العدل ومنع الظلم، التعاون على تحقيق المصالح، التسامح، التناصح وغيرها ويظهر ذلك من خلال:

  • تبنى الوثيقة على البعد التنظيمي بتحديدها الواضح للمسؤولية الفردية والجماعية على حد سواء "وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه"() كما أن هناك مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجماعة على سبيل المسؤولية الجماعية كالديات () "وإنه من فتك فبنفسه"().

  • المساواة بين المسلمين واليهود في الحقوق والواجبات "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم "

  • التعايش السلمي بين المسلمين واليهود القائم على أساس النصح والتعاون والتناصح فيما بينهم، وجعل المدينة حرماً آمناً لجميع أهلها "وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم"()

  • التعاون في المجتمع الواحد: "المهاجرون من قريش على ربعتهم بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين" ()، "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"()

  • نصرة المظلوم: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم".

  • والبر على أبناء الوطن جميعًا "وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم" ()، وغيرها والتي تحدد المهام الملقاة على عاتق مواطني الدولة بمختلف أجناسهم، وأديانهم بدون تمييز طرف على الآخر ().



المطلب الثالث: القيم السياسية في صحيفة المدينة

إن الناظر في صحيفة المدينة يجد أنها حوت على العديد من القيم السياسية والاقتصادية المؤدية إلى التعايش السلمي ومن أبزها استقلال الذمة المالية، الأمور الحربية، الأمن، الحق في المشاركة السياسية، المعاملات المالية، الدفاع عن المدينة ويظهر ذلك من خلال:

  • عملت وثيقة على إزالة الغموض حول مفهوم الأمة جاء في الصحيفة "هذا كتاب من محمد النبي ﷺ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس"().

فهناك تصوران لمفهوم الأمة الأول في إطار المفهوم الديني، والثاني في إطار المفهوم السياسي، فالأمة بمفهومها السياسي الواسع تتسع لتشمل أكثر من جماعة دينية واحدة مما يجعل المجتمع الإسلامي سياسياً يتكون من فئات عدة لها انتماءات دينية مختلفة: "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم"().

-التزام اليهود بالدفاع عن المدينة إلى جانب المسلمين من أي اعتداء خارجي جاء في الوثيقة: "وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"().

  • وحدة المرجعية في التقاضي عند النزاعات بتحديد القيادة السياسية العليا في الدولة ضمن نطاق الدولة الجغرافي، فقد حددت الوثيقة الجهة التي تمثل القيادة العليا في الدولة ومن الفقرات التي نصت على ذلك:() "وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد ﷺ"()، "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ﷺ"().

  • التعاون في حماية الوطن حالة الحرب بالمشاركة في الدفاع عنه بالمال والنفس، ومن ذلك: "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين"()، وأيضًا: "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب"().

  • تنظيم الحقوق والحريات ومتطلبات الأمن، فقد ورد في الوثيقة: "أنه من خرج آمن ومن قعد بالمدينة آمن إلا من ظلم أو أثم"()، كذلك عن تقسيم فئات المجتمع وذكر الواجبات التي لهم وعليهم، ومن تبعهم ومن ذلك: "المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون الأولى كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأول"().

  • التنظيم الاقتصادي والمالي حيث تنفق كل طائفة من المسلمين أو اليهود على أنفسهم ورد في الوثيقة: "وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"().

خلاصة القول: من خلال التأمل والاستقراء في نصوص صحيفة المدينة نجد أن بنود التعايش بأركانها ظاهرة جلية فيها، فأول قيمة ظاهرة للتعايش حفظ الحريات الدينية، فقد أقر النبي  اليهود على دينهم، وجعلهم أمة واحدة في المجتمع المدني، ثم وضحت قيم التعايش المجتمعية التي تحقق الاستقرار من تعاون وتكافل، بينت البنود السياسية التي تضمن الأمن الذي هو ركيزة أساسية في حفظ الوطن وحمايته، وفيما يلي يتحدث المبحث الأخير عن هذه البنود ودورها في حماية الوطن. 


المبحث الرابع

دور قيم التعايش في صحيفة المدينة في حماية الوطن

قام النبي محمد ﷺ وضع أسس الوحدة الوطنية حين أعلن دستور المدينة وأقر فيها حقوق المسلم وغير المسلم في المواطنة، وفيما يلي إشارة لبعض قيم التعايش الواردة في الصحيفة ودورها في حماية الوطن.

المطلب الأول: دور القيم الدينية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

إنَّ من عظمة الإسلام معرفته الراسخة بآليَّات التواصل والتقارب بين الناس والشعوب الحرص على الأمن المجتمعي في الوطن فقد أقرَّ النبيَّ  المشرك على شركه؛ شريطة ألَّا يُهَدِّد أمن المجتمع، فلم يحُلِ الإسلام بين الفرد ومعتقده أيًّا كان هذا المعتقد؛ إيمانًا منه بأنَّ الحريَّة فطرةٌ إنسانيَّة، وغريزةٌ لا يُمكن أن تُستأصل بالقوَّة والعنف؛ فضلًا عن كونها مشتركًا عامًّا بين جميع البشر، ولكنَّ هذا لا يمنع أن ينضبط الجميع بانتماءات الدولة، فلا يجوز لهم بحالٍ أن يتعاونوا مع أعدائها.

كذلك راعت الوثيقة الاختلافات الدينية والعقدية بين اليهود والمسلمين ولم تحدد أمداً أو مدة لبقائهم في ديار المسلمين، فلم يكن لهذا العهد مدة معينة بين الرسول  واليهود، بل ترك الامر مطلقا ما دامو ملتزمين بمدة العقد ()، وفيما يلي البيان:

  • إن من عدل النبي  وإنصافه وتسامحه وتقديره للمفاهيم الإنسانية أنه ابتدأ قوله (لليهود دينهم) قبل أن يقول (للمسلمين دينهم) ليكون في أعلى درجات الإنصاف والتسامح والتأكيد على حرية المعتقد، إذ لا يوجد في الإسلام قتل على هوية المعتقد، فالوثيقة تسعى إلى توفير سبل الأمن المجتمعي، وأن لغير المسلمين ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات ().

  • وضحت وثيقة المدينة المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، فقد قامت على الاعتراف بالتعددية، وإقرار حرية المعتقد، وعضوية الانتماء إلى الجماعة السياسية، والشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات المعنوية والمادية، كما منحتهم التكافؤ والعزة والكرامة في ظل التجربة المشتركة التي تعتمدهم جميعاً ().

  • إن اختلاف الدين ليس بمقتضى أحكام الصحيفة سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة ().

  • أن الوثيقة اعترفت بالتعدد الديني في طار المجتمع الواحد فضلاً عن إقرارها بالحرية الدينية وبإمكانية التعايش بين الأديان المختلفة، وهذه من الأسس التي يمكن الاعتماد عليها في إقرار مبدأ المواطنة في الدولة الإسلامية ().

  • أن المواطنة لا تساوي الانتماء الديني دائماً، بل يمكن أن تفترق عنه حين يكون المجتمع السياسي مكونًا من فئات ذات انتماء ديني متنوع، فيلتقي مفهوم الأمة مع مفعوم الدولة والمواطنة، والناظر في صحيفة المدينة يجد أنها عالجت العلاقات بين الأمتين الإسلامية واليهودية، فهي لم تحرم غير المسلمين حق المواطنة ما داموا يقومون بالواجبات المترتبة عليهم، كالدفاع عن المدينة مع المؤمنين، بالنفس والمال في حال تعرضهم لعدوان خارجي يهدد أمنها واستقرارها، وكذلك في تبادل المعلومات والمشاورات والتناصح في الأمور التي تعود بالخير.

  • أن التعددية في الإسلام تعددية أخلاقية فقد جعلت الفصل بين مواطني المدينة يقوم على البعد الأخلاقي، فقد كانت الوثيقة دعوة للقيم الأخلاقية بين المسلمين وغيرهم ().

  • إقرار مبدأ الحرية الدينية فلليهود دينهم وللمسلمين دينهم، أموالهم وأنفسهم إلا من ظلم ().

  • تدل البنود دلالة واضحة على أن الأمة التي أنشأتها وثيقة المدينة هي أمة تعاقدية متنوعة في انتمائها الديني، تجمع بين المهاجرين والأنصار من جهة، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم من اليهود والأعراب والمنافقين والمؤلفة قلوبهم من جهة أخرى، يجمعهم جميعاً مفهوم الأمة ذات الطابع السياسي والمدني، لا العقدي الديني، إن الأمة التي أنشأتها الوثيقة كانت تتمثل في مجموعة من الأفراد والجماعات تربطهم صلات مادية ومعنوية ().

  • طبقًا لوثيقة المدينة؛ فإنَّ المواطنة لم تُحصر في المسلمين، بل امتدَّت لتشمل اليهود والمشركين، وهذا يعني أنَّ اختلاف الدين ليس سببًا للحرمان من مبدأ المواطنة والتعايش ().

المطلب الثاني: دور القيم الاجتماعية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

كفل دستور الدولة الإسلامية الجديدة لغير المسلمين التسامح الديني المفضي إلى التعايش ليس ما يكفل لهم حرية ممارسة عقائدهم فقط، وإنما كفل لهم ما يجعلهم مواطنين في هذه الدولةـ، مندمجين فيها، موفوري الحرية والكرامة، غير منعزلين ولا مهمشين ().

  • إن من أخلاقيات التعايش المشترك التي حثت عليها هذه الوثيقة، ودفعت المواطنين دفعا لممارستها واعتبارها: خلق التناصر والتناصح والبر دون الإثم ().

  • حرصت الوثيقة على الحث بالتعامل بالمعروف والفضل فهو يساعد على العيش المشترك، وأكدت عليه في غير ما فقرة، "وأن البر دون الإثم، بالمعروف والقسط، إلا على سواء وعدل بينهم"()، وجعلت الوثيقة حق الجار من حق النفس: "وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم"().

  • أكَّد النبيُّ  في الوثيقة على أنَّ الملكيَّة مكفولة ومحترمة للجميع؛ فهي من المشتركات العامَّ ولا يجوز الاعتداء عليها أو التصرُّف فيها إلَّا بعد إذن أصحابها والقائمين عليها؛ إذ إنَّها فطرةٌ إنسانيَّةٌ مترسِّخَةٌ في الوجدان وتزيد فرص التعايش والتوافق بين الناس جميعًا ().

  • رسَّخت الوثيقة مبدأً أخلاقيًّا كان لا بُدَّ منه في تقعيد التعايش المشترك وهو التكافل؛ فالتكافل يضمن وجود الحبِّ المترتِّب على التعارف الذي أكَّدته الوثيقة النبويَّة وسعت إلى تحقيقه؛ فضلًا عن التعاقل وفداء الأسرى فجاء (): "وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل" ().

  • إن الناظر في السيرة النبوية يجد الكثير من المواقف التي رسخت التعامل والتعايش مع المخالف ومنها: الحوار مع أهل الكتاب من دلالات التعايش، رهن النبي درعه عند يهودي، خادم النبي كان يهود، عفو النبي عمن أساء إليه من أهل الكتاب، قبول الهدايا منه، التعاون على تحقيق المصالح الإنسانية، الاستفادة من علومهم ().

  • إن بنود المواطن تظهر واضحة في الحق في التكافل الاجتماعي، وحق الرعاية، وحق التعليم والعمل، وحق الحياة، الحق في المعاملة الحسنة، العقيدة، التعبير عن الرأي وكل هذه تبرز بشكل قوي في وثيقة المدينة.

المطلب الثالث: دور القيم السياسية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

حرصت الوثيقة على تحديد الهويَّة الإسلاميَّة والدينيَّة للدولة الجديدة، في المؤمنين بالإسلام (العقيدة)، والقاطنين في المدينة (الأرض)، وقد تعاملت الوثيقة مع هذين المستويين بكلِّ وضوح، وصرَّحت على محاربة كلِّ مَنْ يتجرَّأ على هذين المشتركين المهمَّين()، فقد حدَّدت وثيقة المدينة طبيعة الشعب الذي يحمل جنسيَّة المدينة المنوَّرة؛ فهو شعبٌ مكوَّنٌ من أصحاب الانتماء العقدي كالمسلمين واليهود، وأصحاب الانتماء العرقي كالأوس والخزرج والمهاجرين، وأصحاب الانتماء القومي وهم أهل المدينة جميعهم، وأصحاب الانتماء الجغرافي ونقصد الحجازيِّين المدنيِّين ومواليهم وأحلافهم داخل الرقعة الجغرافيَّة التي حدَّدها النبيُّ ، وهذا التنوُّع أقرَّه النبيُّ ، وعَمِل بمقتضاه بعبقريَّةٍ لافتة، ونجحت هذه التنوُّعات في تكوين مجتمعٍ متجانس()، وفيما يلي توضيح لدور هذه البنود في حماية الوطن.

  • أن الوثيقة التي كتبت بإملاء النبي ﷺ في العام الأول من هجرته مثلت السياسة الداخلية للدولة الإسلامية مع الآخر اليهودي والوثني وهو ما يسمى في العصر الحديث بالقانون الدولي الخاص، وكذلك مثلت نظاماً للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بالقانون الدولي العام ().

  • نصت الوثيقة على مضمون المواطنة التي تعني المساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات من خلال اشارتها إلى أن المؤمنين من أهل مكة وأهل المدينة أمة واحدة يكونون أمة سياسية مع اليهود من أهل المدينة، فهي أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة بين أفراد الجماعة السياسية، وأنها نظمت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرفية ().

  • كفلت الوثيقة حق الدفاع المشترك عن الوطن الذي يضمهم دون النظر إلى العقيدة عند العدوان الخارجي ().

  • وفقاً للبنود الواردة في صحيفة المدينة فإنه يترتب على انتماء المتعاقدين للدولة وفقًا للبنود الواردة في الوثيقة أن ينعم أهلها من المسلمين وغير المسلمين بالعصمة في أنفسهم وأموالهم فهم جميعاً آمنون بأمان الإسلام، المسلمون بإسلامهم، والذميون بسبب عقد الذمة، وهي نفس آثار انتماء الأشخاص إلى دولتهم ().

  • منحت الوثيقة حق التملك لكل المواطنين بصرف النظر عن الديانة فلا يجوز لأحد أن يسطوا على أحد ولا على شيء من ممتلكاته وبئر رومة خير مثال على ذلك ().

  • منحت الوثيقة الحق في المشاركة السياسية بصرف النظر عن ديانتهم، وكذلك أوجبت الدفاع عن الكيان السياسي في المجتمع، وبينت المسؤولية الشخصية من خلال تشريعات أنظمة الجرائم والعقوبات وكل ذلك يحقق الأمن الوطني، ويهدف إلى حماية الوطن ().

  • أسست وثيقة المدينة دولة مدنية في واقع لم يكن يعرف الدولة بعناصرها الأربعة (المواطن- الإقليم- الحكومة- القانون) فكانت دستوراً نموذجياً لدولة متميزة في الجزيرة العربية.

  • أسست وثيقة مفهوم التعايش السلمي بعد انهاء حالة النزاعات بين أصحاب الاعتقادات المختلفة وبذلك تسقط الوثيقة استغلال العقائد بوصفها محركات للصراع.

  • وضعت الوثيقة الأسس لقيام دولة مركزية ونصت على خضوع الجميع لمرجعية الدولة المتكفلة بإقامة العدل وتنظيم القضاء، وعند الاختلاف فإن قائد الدولة هو الذي يفصل فيها ().

  • عملت وثيقة على إزالة الغموض حول مفهوم الأمة فظهر مفهوم المواطنة حين اتحد مفهوم الأمة مع مفهوم الوطن والدولة والمواطنة ()، فقد أسست الوثيقة مفهوم الأمة من خلال الروابط العقدية والفكرية على اختلافها.

  • ركزت الوثيقة في مجال الحكم على قضيتين هما العدل وتنظيم القضاء، لأهمية هذين الأساسين لكل مجتمع سليم، وأن غيابهما من أسباب القلق والاضطراب قبل الإسلام ().

  • جمع رسول الله  بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية ()، فتكونت المرجعية الرئيسية لجميع قضايا المجتمع على اختلاف أنوع القضايا وأسبابها.

  • أسست الوثيقة لمبدأ وجوبية نصرة المظلوم على الجميع.

  • الوثيقة شرّعت لمبدأ قضائي مهم وهو عدم نصرة المجرمين الآثمين وعدم إيوائهم والتستر عليهم؛ لأن في ذلك منعا أو تعطيلا للعدالة أن تأخذ مجراها ().

  • تقرر الوثيقة لمبدأ قضائي عدلي حكيم وهو أن المسؤولية الجنائية فردية، وبالتالي فإن العقوبة عليها لا بد أن تكون خاصة بمن ارتكب الجريمة، ولا يسد أحد مسده في تحمل العقوبة بدلا منه ().

  • حددت الوثيقة مفهوم الأمة فالأمة في صحيفة المدينة تضم المسلمين جميعًا ومن تبعهم ولحق بهم وهذه استراتيجيات جديدة لم تكن معروفة في تاريخ الجزيرة العربية السياسي ().

  • حددت الوثيقة مفهوم المواطنة فاعتبرت الصحيفة اليهود جزء من مواطني الدولة الإسلامية، الذين يعيشون في أرجائها، وأنهم أمة واحدة مع المؤمنين ما داموا قائمين بالواجبات التي عليهم ().

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي جاد بفيوضات نعمه على جميع عباده فله الحمد والشكر والثناء، والحمد لله الذي غمرت آلاؤه جميع مخلوقاته فله الحمد ابتداءً وانتهاء، ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الجاثية: ٣٦ – ٣٧]

أحمد الله سبحانه وتعالى على نعمائه، وأشكره على آلائه، حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، على ما يسر لي من إتمام هذا البحث فله الحمد في الأولى والآخرة.

أبرز النتائج والتوصيات التي تمخضت عن هذا البحث:

أولاً: النتائج:

1-تعددت الآراء وتباينت في تحديد تعريف التعايش فتعرفه الباحثة بأنه جملة القيم والآداب والمعارف والسلوكيات والتنظيمات التي تساعد على خلق جو من التفاهم والتقارب بين أبناء المجتمع الواحد رغم اختلاف عقائدهم، وثقافاتهم، وأفكارهم، وقيمهم، بما لا يتعارض مع أنظمة وقوانين مجتمعهم، ولا يُنافي أصول الدين الإسلامي وتعاليمه.

2-في ظل الانفتاح الثقافي والمعلوماتي والتقني الذي تَعِيشهُ المجتمعات اليوم ونظراً لكثرة الحروب والنزاعات والصرعات المتفشية في المجتمعات المحلية والعالمية، وجب على المسلمين البحث عن سبل مشتركة للتعايش والامتزاج مع الآخر منطلقين من الثوابت الدينية، مستقين أحكامهم وتشريعاتهم من كتاب الله تعالى، ومنهج النبي  في التعايش مع الآخر، واضعين نصب أعينهم الضوابط التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ونادت بها.

3- مثلت وثيقة المدينة فتحاً جديداً في تاريخ البشرية، حيث كانت بمثابة الدستور الذي نظم قواعد العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة في ظل تعايش سلمي، ورسمت العهود والمواثيق التي وقَّعها النبيُّ  وخلفاؤه من بعده المعالمَ الرئيسة لكيفيَّة التعامل، والتعاقد، والشراكة، والتكامل، والتعارف، والتوافق مع جميع الطوائف القاطنة بها.

4-للوثيقة أهمية تشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث لبيان درجة قوتها وضعفها، وما ينبغي التساهل فيها كما يفعل مع الروايات التاريخية، فتُبنى عليها الحقائق التاريخية، ولكن لا تُبنى عليها الاحكام الشرعية، ويستنبط منها القيم الإنسانية التي تحقق الأمن المجتمعي.

5-وضع النبي  على رأس هذه الوثيقة القيم العقدية، فالإسلام لم يكره أحد أبداً على الدخول في الدين، ولم يتصادم مع العقائد المختلفة الموجودة في المجتمع، وموقف الإسلام من التعددية الدينية ليس موقف اعتراف إنما موقف احترام، فقد راعت الوثيقة الاختلافات الدينية بين المسلمين واليهود.

6- حوت على العديد من القيم الاجتماعية من أبرزها المساواة، العدل ومنع الظلم، التعاون على تحقيق المصالح، التسامح، وغيرها.

7- تمثلت القيم السياسية والاقتصادية المؤدية إلى التعايش السلمي في وثيقة المدينة في الكثير من بنودها ومن أبزها استقلال الذمة المالية، الأمور الحربية، الأمن، الحق في المشاركة السياسية، المعاملات المالية، الدفاع عن المدينة، وغيرها.

8-تؤدي قيم التعايش في صحيفة المدينة دوراً هاماً في حفظ الأمن المجتمعي، فهي تؤدي إلى حماية الوطن من خلال القضاء على أسباب الفرقة والخلافات والنزعات، وتسعى إلى تقارب أفراد المجتمع عن طريق إبراز المشتركات الإنسانية فيما بينهم.

9- حرصت الوثيقة على إرساء دعائم الأمن والوحدة الوطنية، وتوضيح مفاهيم المواطنة، وبيان الحقوق والواجبات لتساهم في حماية الوطن الذي هو جوهر وثيقة المدينة وهدفها الأسمى.

ثانيًا: التوصيات:

1-على دول العالم الإسلامي إنشاء منظمة إسلامية عالمية تهتم بدراسة المجتمعات الإنسانية، دراسة واسعة مستفيضة تسعى إلى دراسة سبل التواصل، ووضع آليات للتعايش بين المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات.

2-التأكيد على جميع المؤسسات المجتمعية بضرورة إعداد برامج توعوية داخل المؤسسات، تسعى إلى إعداد برامج تثقيفية لمنتسبيها وتوعيتهم يقيم التعايش وأهميته ووسائله.

3-على الجامعات الاهتمام بالدارسات المتعلقة بالتعايش المجتمعي، والتشجيع على الأبحاث العلمية التطبيقية، وتفعيل الكراسي العلمية المرتبطة بالتعايش وسبله وآلياته.

4-العمل على إنشاء مظلة رسمية تضم الكوادر المتخصصة بالدراسات الإسلامية المتعلقة بالتعامل والتعايش مع المخالف وتقوم بإعداد برامج توعوية، وإعداد ملتقيات اجتماعية تهدف إلى تبادل الخبرات بين المتخصصين، ومحاولة وضع أليات واستراتيجيات للتعايش متناسبة مع لغة الواقع المعاصر.

5-ضرورة إنشاء برامج شراكة مجتمعية تهدف إلى التعاون بين المؤسسات المهتمة بالحوار بين الأديان، والتعايش مع المخالف في مختلف المجالات، ومحاولة وضع وسائل لنشر السلام بين المجتمعات الإنسانية.

6-مخاطبة المؤسسات الإعلامية بضرورة الاهتمام بإعداد برامج تساعد نشر ثقافة التعايش، وعليها أيضًا التعاون مع المؤسسات ذات العلاقة، لتغطية برامجها وأنشطتها.

7-على المؤسسات المهتمة بالتعايش وآلياته الاهتمام بالإعلام بكافة أشكاله، وعدم الاقتصار على الإعلانات التقليدية، بل عليها مواكبة كل وسائل التقنية المتطورة الموائمة لطبيعة نشاطها.

8-إبراز دور الملحقات الثقافية السعودية للاهتمام بغرس القيم الصحيحة، والدعوة إلى الفضائل في نفوس المبتعثيّن، وتعليمهم الحوار وأساليبه حتى يكونوا سفراء للإسلام، ودعاة إلى الله بأخلاقهم، فيحققوا التعايش السلمي بما لا يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي.

9-ضرورة إنشاء مراكز ثقافية على مستوى العالم العربي تهتم بنشر ثقافة التعايش ووسائله وآلياته، وتفعيل دور وسائل التواصل الاجتماعي لنشر تطبيقاته.

10- عقد مؤتمرات دولية تدعو إلى التعايش، وإبراز دوره في الحفاظ على الأمن المجتمعي من خلال المشتركات الإنسانية.

11-التوسع في إنشاء قاعدة بيانات على الشبكة العالمية الانترنت تدعم مفاهيم التعايش وقيمه وإظهار ثقافة التسامح الديني، بجميع اللغات، واستحداث برامج وتطبيقات تدعم ذلك.

12-الاهتمام بنشر ما ذكره المنصفون من غير المسلمين بشأن سماحة الإسلام في التعايش مع أتباع الديانات. وهذه أؤكد عليها بقوة، فلا زالت الجهود تحتاج إلى مزيد في هذا الجانب.

هذا وأختم بحثي بالصلاة والسلام على سيد ولد عدنان محمد بن عبد الله  عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما استغفر المستغفرون، وعدد ما سبح المسبحون، وعدد كل شيء وملء كل شيء، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد  في الأولين وفي الآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، صلاة تامة دائمة كما تحب وترضى.

 

المراجع:

  1. أثر الحوار في التعايش مع الآخر، عبد السلام حمود غالب، (بدون بيانات نشر).

  2. أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو، ت: محمد باسل، ط1، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1419ه – 1998م).

  3. الإسلام والتعايش بين الأديان، عبد العزيز التويجري، ط2، (منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1436ه-2015م).

  4. تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد الزبيدي، ط1، (بيروت: دار الفكر، 1414ه).

  5. التعايش السلمي في إطار التعددية المذهبية داخل المجتمع المسلم وتطبيقاته التربوية في الأسرة والمدرسة، مزنة بريك المحلبدي، (بحث مكمل لنيل درجة الماجستير في التربية الإسلامية والمقارنة، في جامعة أم القرى، 1432ه).

  6. التعايش السلمي في ضوء عقيدة الولاء والبراء، توفيق بن كمال طاس، (مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة، ع14، 2015م).

  7. التعايش السلمي للأديان وفقه العيش المشترك نحو منهج التجديد، محمد مختار مبروك، ط1، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2014م).

  8. التعايش في القرآن الكريم دراسة تأصيلية، محاسن حسن الفضل عبدالله، (جامعة ملايا: مركز البحوث بجامعة ملايا بماليزيا، د.ت)

  9. التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المفتوحة، كمال طيرشي، محمود كيشانة، عامر عبد زيد، معاذ بني عامر، الحاج دواق، عصام بوشربة، سعيد عبيدي، (بدون بيانات نشر) من جزء (التعددية الدينية قراءة في صحيفة المدينة، محمود كيشانة، 2015م).

  10. التقارب والتعايش مع غير المسلمين، محمد موسى الشريف، ط1، (جدة: دار الأندلس الخضراء، 1424ه).

  11. تهذيب البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: يوسف أحمد، أبو مسلم الجزائري، عبد المالك واضح، موفق خليل، ط1، (الرياض: دار السلام، 1431ه).

  12. حقوق الآخر في ضوء صحيفة المدينة المنورة: تأصيل إسلامي لمبدأ التعايش، خالد عليوي جياد، (مج: رسالة الحقوق كلية القانون، جامعة كربلاء، ع:2، 2012م).

  13. حقوق الإنسان في وثيقة المدينة، سليمان صالح السليمان، (الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 1437ه - 2015م)

  14. الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها، على الصلابي، (د.ط)، (بيروت: دار المعرفة، د.ت)

  15. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ط1، (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1423ه-2002م).

  16. زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبو بكر ابن قيم الجوزية، د.ط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1415ه- 1995م)

  17. السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة، أكرم ضياء العمري، ط6، (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 1415ه-1994م)

  18. السيرة النبوية، عبدالله ابن هشام، ت: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي، ط2، (مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1375ه-1995م).

  19. صحيح السيرة النبوية، إبراهيم بن محمد بن حسين العلي، ط1، (الأردن: دار النفائس، 1415ه- 1995م).

  20. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس، تعليق: إبراهيم رمضان، ط1، (بيروت: دار القلم، 1414ه-1993م).

  21. فقه السيرة، محمد الغزالي، تحقيق: محمد الألباني، ط1، (دمشق: دار القلم، 1423ه-2002م).

  22. كتاب الأموال، حميد بن زنجويه، تحقيق: شاكر فياض، ط1، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1406ه- 1986م).

  23. معاهدات الرسول  دراسة الأبعاد الإنسانية، جنيد الهاشمي وشاه الهاشمي، (مج: القلم، جون، 2013م).

  24. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر / محمد النجار)، (بدون بيانات نشر).

  25. المواطنة والتعايش السلمي مدخل لتحقيق التنمية البشرية، مهدي القصاص، ع3، (جامعة المنصورة، مجلة جامعة التنمية البشرية).

  26. موقف الإسلام من التعايش مع أهل الكتاب، محمود صلاح الدمياطي، (غزة، الجامعة الإسلامية، 1437ه -2016م).

  27. نظرة جديدة في سيرة رسول الله، جيو رجيو كونستانس، ترجمة محمد التوخي، ط1، (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 1983م).

  28. وثيقة المدينة المضمون والدلالة، أحمد قائد الشعيبي، (قطر: كتاب الأمة، ع110، ذو القعدة، 1425ه)

  29. وثيقة المدينة دراسات في التأصيل الدستوري في الإسلام، مجموعة من المؤلفين، ط1، (بيروت: مركز دراسات الكوفة، 2014م).

  30. وثيقة المدينة دراسة في المصادر الإسلامية المبكرة وآراء المستشرقين، محمد فخر الدين ومشتاق الغزالي، (العراق: جامعة الكوفة، د.ت).

  31. يهود المدينة في العهد النبوي أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، سامي حمدان أبو زهري، (غزة: الجامعة الإسلامية، 1424ه -2004م).

  32. مواقع الإنترنت:

  33. التعايش السلمي درس من دروس الهجرة، عبدالله متولي،  www.alraimedia.com.

  34. وثيقة المدينة النموذج الأمثل للتعايش، راغب السرجاني، islamstory.com، قصة الحضارة، 3أغسطس 2018م، تاريخ الدخول الأحد 26 سبتمبر2018م)


الفهرس

العنوان

الصفحة

الملخص

54

Abstract

54

مقدمة

56

المبحث الأول: " التعايش مفهومه وأهميته وأهدافه"

57

المطلب الأول: تعريف التعايش

57

المطلب الثاني: أهمية التعايش وأسسه وأهدافه

58

أولاً: أهمية التعايش

58

ثانيًا: أسس التعايش مع الآخر وضوابطه

60

المبحث الثاني: "صحيفة المدينة أسماؤها، تاريخ كتابتها، وسندها"

61

المطلب الأول: أسماء صحيفة المدينة وتاريخ كتابتها.

62

أولاً: أسماء صحيفة المدينة

62

ثانياً: تاريخ كتابة الوثيقة

63

المطلب الثاني: سند صحيفة المدينة

63

المبحث الثالث: "قيم التعايش في صحيفة المدينة"

66

المطلب الأول: القيم الدينية في صحيفة المدينة

67

حرية الاعتقاد والتعبد في صحيفة المدينة.

67

المطلب الثاني: القيم الاجتماعية في صحيفة المدينة

68

المطلب الثالث: القيم السياسية في صحيفة المدينة

70

المبحث الرابع: "دور قيم التعايش في صحيفة المدينة في حماية الوطن"

72

المطلب الأول: دور القيم الدينية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

72

المطلب الثاني: دور القيم الاجتماعية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

74

المطلب الثالث: دور القيم السياسية في صحيفة المدينة في حماية الوطن.

75

الخاتمة

78

أولاً: النتائج

78

ثانيًا: التوصيات

79

المراجع:

82