الدبلوماسية الدينية ودورها في التصدي لخطاب الكراهية
د. محمد الغَمْقي
المقدمة
يجمع البحث بين قراءة معرفية وتحليل لخطاب الكراهية، وخاصة مصطلح الإسلاموفوبيا من ناحية، ومن ناحية أخرى عرض مبادرة في بلاد غربية يشرف عليها مسلمون بالتشارك مع ممثلي ديانات أخرى.
في الجزء الأول من البحث نوضح كيف أن ظاهرة الإسلاموفوبيا تصاعدت في العشرية الأخيرة في ديار الغرب في علاقة بتصاعد موجة الشعبوية. مع التوقف عند مظاهرها وأسبابها وتداعياتها.
وفي الجزء الثاني نتطرق إلى مبادرة من المجتمع المدني متمثلة في مشروع عنوانه: "الدبلوماسية الدينية: سلام وتصالح: تجربة الأمير عبد القادر.". مع التوقف عند خصوصياتها وأبعادها.
وبين المحورين، يتم التطرق إلى تعريف الدبلوماسية الدينية وضوابطها والأطراف الفاعلة فيها.
الكراهية والرهاب (فوبيا) ظاهرتان متلازمتان
لا يمكن فصل الكراهية عن الرهاب (فوبيا). فهما ظاهرتان متلازمتان. ذلك أن خطاب الكراهية يؤدي إلى الخوف من الطرف المستهدف بالكراهية، كما يمكن أن يكون العكس صحيحا. إذ أن الفوبيا تقود إل الكراهية من شدة الخوف من شخص أو من مجموعة معينة.
أما "الرهاب أو ما يعرف بالفوبيا بالإنجليزية: Phobiaفهو أحد أنواع اضطرابات القلق التي يعاني فيها الفرد من خوف شديد وغير منطقي من موقف معين، أو كائن حي، أو مكان، أو أي شيء آخر،
تحدث الفوبيا أو الرهاب عندما يكون لدى الشخص إحساس غير واقعي ومبالغ به حول شعوره بالخطر بشأن موقف ما أو شيء معين، وتعد الفوبيا أكثر من كونها مجرد خوف، وفي حال أصبح الرهاب شديداً جدًا، فيمكن أن يسبب الكثير من الضيق والحزن، إذ ينظم الشخص حياته محاولاً تجنب ما يسبب له القلق مما يؤدي إلى تقييد حياتهم اليومية.
الإسلاموفوبيا والجدل بشأن دوافعها وأسبابها
إن من أنواع الفوبيا الخوف من الدين الإسلامي المعروفة بمصطلح الإسلاموفوبيا. وهي ظاهرة تصاعدت بتصاعد انتقال الحضور الإسلامي من الهجرة إلى المواطنة.
بيد أن الجدل الكبير هو بشأن الأسباب المؤدية إلى الكراهية والرهاب من الإسلام وأهله. فالبعض يركز على مسؤولية العرب والمسلمين المقيمين في الديار الغربية من حيث الانحرافات السلوكية والفكرية، في حين يركز البعض الآخر على مسؤولية الطرف الغربي تاريخيا وحاضرا في استهداف الإسلام في إطار ما يسمى بعقلية التآمر على خصم حضاري.
وفي الواقع، فإن الأسباب متنوعة ومعقدة والمسؤولية مشتركة. إذ لا يمكن الفصل بين مسؤولية الطرفين الإسلامي والغربي من أجل التوصل إلى استشراف المعالجة بمقاربة علمية.
الانحرافات السلوكية والفكرية لدى شريحة من أبناء المسلمين
وأول الحجج التي يلجأ إليها حاملو مشاعر الكراهية للعرب والأفارقة وللمسلمين المقيمين في الغرب، من أجل تبرير مواقفهم، ما يطلق عليه عادة ظاهرة الانحراف السلوكي لدى شريحة من أبناء المهاجرين الوافدين إلى الديار الغربية. وهو أمر لا يمكن إنكاره.
فهناك انتقاد لسلوكيات بعض المسلمين من حيث غياب ما يسمى السلوك الحضاري، مثل النقص في الالتزام بقواعد النظام وقوانين البلاد، وأيضا النقص في إتقان العمل، وعدم احترام المواعيد.. وغيرها من السلوكيات التي تدرج في خانة التخلف الحضاري.
ويزيد مستوى الانتقاد بقدر ارتفاع مستوى الانحرافات السلوكية، خاصة إذا تجاوزت إلى ضروب من الاعتداءات على الممتلكات والحرمات من سرقة وجريمة.. وللعلم، هناك نسبة من أبناء العرب والمسلمين المتواجدين في السجون الأوروبية والغربية بسبب ارتكاب جرائم الحق العام. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير الإحصائيات إلى أنه من بين 72 ألفا وهو العدد الإجمالي للسجناء في فرنسا عام 2023، هناك حوالي 18,345 شخصًا من أصل أجنبي ولا يحملون الجنسية الفرنسية، 1,480 منهم من خارج الاتحاد الأوروبي. وأكثر من 10 آلاف أجانب من أفريقيا نسبة كبرى منهم من أبناء عائلات مسلمة. أما السجناء من جنسية فرنسية فيبلغ عددهم أكثر من 50 الفا من بينهم من أصول عربية وأفريقية مسلمة.
بيد أن الأخطر في موضوع الانحراف وتداعياته النفسية والاجتماعية هو سقوط بعض الشباب المسلم في فخ الإرهاب. وهي مسألة جد معقدة لتداخل معطيات عديدة في صيرورتها.
والملاحظ منذ تسعينيات القرن الماضي، التحاق شباب من الأجيال الصاعدة إلى تنظيمات تؤمن بالعنف، وقام بعضهم بأعمال إرهابية في مدن وعواصم أوروبية غربية، مما أثار مخاوف بشأن بروز فئة من الشباب المسلم المقيم في الغرب لا يجد للتعبير عن نقمته على ظروفه المعيشية وعن غضبه لما يراه من ظلم سوى اللجوء إلى العنف القاتل والمدمّر.
والسؤال الذي يحتاج إلى التوقف عنده هو التالي: كيف يُعقل أن شبابا متدينا تربّى داخل الغرب، ودرس في مدارسه ومعاهده وترعرع داخل المنظومة الغربية القيمية والفكرية، وسمع عن طبيعة الإسلام وقيمه السمحة وعن حقوق المواطنة وواجباتها، ثم يتحول من حمامة سلام إلى قنبلة بشرية تحصد الأرواح وجهود سنوات من بناء جسور الحوار الإسلامي الغربي؟
رواسب التخلف وضعف الإبداع الحضاري
إن بداية الحل لا تكون باستغلال انحرافات في صفوف بعض الشباب المسلم المتأثر بظاهرة التشدد أو الغلو في الدين إعلاميا وسياسيا لوصم الحضور الإسلامي في الغرب بالإرهاب.
الإشكال هو أنه بدل استغلال مظاهر الانحراف السلوكي لزرع الكراهية في النفوس، كان من الأولى السعي الجاد إلى معالجتها بعد تشخيصها بمقاربة واقعية.
إن بداية الحل تكون بمحاولة الفهم من أجل المعالجة. وأهم ما يمكن لفت الانتباه إليه هو أنه ليس من الأنصاف اعتبار الانحراف ظاهرة ملازمة للحضور الإسلامي في ديار الغرب، واعتماد حالات منفردة ومعزولة لتعميم الحكم على كل المجتمع المسلم المتواجد بالغرب. ثم إن هذه الانحرافات السلوكية (من سرقة وجريمة..) ليست سوى نتيجة لأوضاع اجتماعية وظروف اقتصادية تسببت في فقدان سيطرة الأسرة على أبنائها تربويا، فوجدوا الباب مفتوحا للانحراف.
ثم إن السعي إلى تبرير الكراهية للعرب والمسلمين عن طريق تقديم إحصائيات مثلا عن عدد السجناء ينتمون إلى عائلات مسلمة ليست سوى وسيلة لتعزيز لظاهرة الشعبوية المتصاعدة في ديار الغرب. إذ أن مثل هذه المعطيات تؤكد في الواقع وجود مشكلة حقيقية لا تخص المسلمين وحدهم وإنما المجتمع بأسره، ذلك أن هذا الحجم الكبير من السجناء بمختلف جنسياتهم ودياناتهم وثقافاتهم يطرح تساؤلات كبيرة حول الاختلالات في الأنظمة التربوية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية وتأثير ذلك على أزمة القيم وعلى التفاوت في المستوى المعيشي.
أما ما يسمى بالتخلف الحضاري، فإن المسألة تحتاج إلى قراءة عميقة تضع الظاهرة الاجتماعية في سياقها التاريخي فتنطلق من اعتبار مسلمي أوروبا والغرب جزءا لا يتجزّأ من أبناء هذه الأمة منها، يتأثرون بهمومها ومشاكلها ويصيبهم من الأمراض ما يصيبها.
ومن بين هذه الأمراض المعيقة للفعل والتأثير، ضعف الإبداع الحضاري والإنتاج الفكري والتكنولوجي، والاكتفاء بالتقليد والاستهلاك. وهذه الأمراض تعود إلى رواسب عهود التخلف والانحطاط، منذ تراجعت الأمة الإسلامية عن ريادتها الحضارية، وبرزت قوى منافسة لها استفادت من زخم الموروث الحضاري الإسلامي، بينما بقيت الأمة ترزح تحت ضروب التقهقر. الأمر الذي يفسر إلى حدّ ضعف قدرة عدد من البلاد الخارجة من الحقبة الاستعمارية على توفير التنمية الضرورية لأبنائها الذين اضطروا إلى الهجرة إلى الخارج، في اتجاه بلاد استعمرتهم غالبا، لسهولة استخدام اللغة كل حسب البلد المستعمر.
والنتيجة، أن نسبة من هؤلاء الوافدين حملوا معهم ثقافة وعقلية البلاد التي جاؤوا منها، بما في ذلك رواسب الماضي. ويمكن استنتاج هذا الأمر من خلال مستوى الفعل والتأثير في المجتمعات الأوروبية، إذ لم يتحول المسلمون بعدُ إلى ثقل اقتصادي وسياسي وثقافي وإعلامي، وإلى مجموعات ضغط كما هو حال مجموعات دينية وإيديولوجية أخرى. بالرغم من وجود أدمغة وعقول في مستوى راقي من أطباء ومهندسين وأساتذة.. يسهمون في نهضة الغرب اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وصحيا.. إلا أنهم لا يجدون في الغالب الاحترام والتقدير المناسبين.
وربما يعود هذا التعامل إلى اعتبار النخبة الفاعلة أقلية داخل الحضور الإسلامي في الغرب، ويتم التركيز على الغالبية والنظر إليها من خلال زاوية سلبية فحسب.
وفي هذا السياق، يتم التركيز على مسألة الإرهاب واستغلال بعض الحالات المعزولة وتوظيفها إعلاميا وسياسيا لترسيخ الكراهية والرهاب من الإسلام وأهله.
ثقافة الرفض والتشدد
وكان من الأجدر الغوص في جذور المشكلة، وعدم التوقف عند الانحراف السلوكي والذهاب إلى أصل الانحراف المتعلق بالانحراف في التصورات والأفكار من أجل تحقيق حلول واقعية.
فهناك شق من المسلمين وخاصة من الشباب يتبنون موقفا رافضا ومتشددا إزاء الغرب. ويتسم هذا الموقف لدى بعض المسلمين بالشد إلى الوراء، وإلى تاريخ الصدام بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وإلى الصليبية والاستعمار، وإلى الفكر التآمري الذي يُرجع كل مآسي العالم الإسلامي إلى الغرب. وهم ينطلقون في موقفهم هذا إلى اعتبار الغرب شرّ كله. وهو موقف متأثر بقراءة قديمة للغرب تعتبر هذا الأخير معاديا للإسلام والمسلمين. وهذه النظرة مستوحاة من النظرة السائدة عن الغرب في العالم الإسلامي، والتي تعود إلى مخلفات العهد الصليبي والحقبة الاستعمارية، لكنها تجد مصداقيتها ومشروعيتها عند البعض بقراءة للسياسة الغربية وتحميل المسؤولية للغرب في تعامله مع ملفين كبيرين: الحضور الإسلامي في الغرب من جهة بالتركيز على مسألة التهميش والإقصاء أو التعامل الأمني مع الملف الإسلامي، أو ترك الإسلاموفوبيا تنتشر دون التحرك لإيقاف هذه الظاهرة، وقضايا العالم الإسلامي من جهة أخرى بالتركيز على مواقف متحيزة في قضايا عادلة، خاصة ما يتعلق بقضية فلسطين وبقضايا ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط، وإلى التدخل الأجنبي في شؤون الشعوب الإسلامية وحق تقرير مصيرها.
إن أصحاب الموقف المتشدد والرافض للغرب يتبنون خطابا من بين معالمه تعميم الحكم على الأشياء، مثل القول بأن الغرب دار كفر، وبالتالي تحرم الإقامة بين ظهراني الكفار كما تحرم موالاتهم. ونجد هذا الموقف خاصة لدى شريحة من الشباب المتحمّس والذي تنقصه المعرفة بمقتضيات الواقع وبخصائص الدين الإسلامي ومن بينها الرؤية الشمولية والواقعية في التعامل مع الواقع، مع اعتماد مرجعيات دينية تتبنى منهجا فكريا يعتمد القراءة الحرفية للنص ويرفض كل تجديد بحجة أنه بدعة والتوقف عند ما يسمى بالعصر الإسلامي الذهبي أي المرحلة الأولى من تاريخ الإسلام الذي يوافق العهد النبوي وعهد الخلاقة الراشدة وبصفة أقل عهد التابعين، والتقيد بهذه المرحلة، باعتبارها من التراث الإسلامي الذي يجب التمسك به، وباعتبارها النموذج الفريد الذي يجب الاقتداء به بل ونقله شكلا ومضمونا إلى العصر الحاضر والاجتهاد في الالتزام به في البلاد الإسلامية وفي الديار الغربية، دون النظر إلى التحولات الحاصلة وإلى خصوصيات الواقع والزمان والمكان، وعدم الفرز بين الثابت والمتحوّل. إذ لا يأخذ أصحاب هذا الموقف بالاعتبار التطورات على مستوى العلاقات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ولا التطورات الحاصلة في أوروبا والغرب عموما، وأهمها تواجد حضور إسلامي في هذه الديار يتحول تدريجيا ليصبح جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمعات الأوروبية الغربية.
أما السلوكيات الناتجة عن هذا الموقف، فتتمثل خاصة في تعمّد إبراز مظاهر الإسلام بشكل مثير ومستفزّ ورفض الانصياع للقوانين وعدم احترام العُرف، وقد تصل الانحرافات السلوكية إلى درجة أخطر في حال تبني نهج القطيعة مع الغرب، وتجاوز منطقة الرفض الفكري والسلوكي والدفاع عن خيرية الإسلام إلى منطقة العمل العنيف وإعلان القطيعة التامة مع المجتمعات الغربية.
إن أمرا بهذه الخطورة يحتاج إلى تحديد استراتيجية عمل لترشيد نقمة الشباب الذي يرى الظلم المسلط يوميا على الإسلام وبلاد المسلمين وأحيانا على الأقليات المسلمة المقيمة في الغرب. وهو من المتابعين لما يجري في فلسطين وبلاد إسلامية...خاصة ونحن في عصر الصورة والفضائيات التي تنقل الحدث مباشرة، ثم يتكرر بثه لمرات عديدة، بحيث يعلق الحدث في الذاكرة ويترك بصماته على شباب تتولد فيه النقمة يوما بعد يوم.
ولا يختلف اثنان في أن مرحلة الشباب دقيقة في حياة الإنسان، لكونها المرحلة التي تتبلور فيها تصورات المرء حول نفسه والبيئة التي يعيش فيها والعالم الذي يحيط به. تكفي الإشارة إلى أن سورة في القرآن الكريم (الكهف) تمحورت حول قصة شباب صبر على الحق وتمسك به ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾، في إشارة إلى أهمية دور مرحلة الشباب في تعزيز رسالة الحق.
كما أن هذه المرحلة يطغى عليها نوع من المثالية في الرؤى والمواقف، ولذا تجد لدى الشباب - المتدين خاصة - حساسية ضد كل أصناف الظلم. فتراه رافضا ومحتجّا على المظالم وعلى المتسببين فيها، ويميل بطبعه إلى الانتقام وإلى رد الفعل الحماسي والعاطفي غالبا، خاصة إذا تعلق الأمر بدائرة المقدسات، فإن غيرته على دينه تقوده إلى المنافحة عن الدين وعن الحق، أحيانا بالأسلوب الأقصى الذي لا يقبل أنصاف الحلول والموازنات. الإشكال أن بعض الشباب يرى الأشياء بثنائية متناقضة: ابيض أو أسود، حق أو باطل، ولا مكان لمنطقة رمادية، ويعتبر ذلك من باب صدق الولاء للإسلام وقضاياه، ومن باب الصفاء والشفافية.
ولعل الكثير من الشباب المسلم التقط من التاريخ الإسلامي الصور البطولية لعلماء ومجاهدين لم يتوانوا عن التضحية بأنفسهم ولم يخشوا في الله لومة لائم، كما أن نداء "وإسلاماه" يراود بنات أفكارهم ويذكرهم بهبّة المسلمين للانتصار لامرأة مسلمة تم الاعتداء عليها، ويقارنون بين عزّة المسلمين في ظل التاريخ الإسلامي المجيد، وبين حالة العجز وضعف الإرادة للخروج من الوضع الصعب الذي تعيشه الأمة الإسلامية. والطاقات المتفجرة داخله تجعل هذا الشباب المتحمّس ينظر إلى الأجيال المتقدمة كونها متراخية بل يحكم عليها أحيانا بالتخاذل وعدم نصرة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان وخذلان قضايا المسلمين.
في هذا الإطار، نشير إلى إشكالية تربوية تحتاج إلى علاج عميق وتتمثل في بصمات التربية والثقافة والعقلية الغربية وأخطرها كسر هيبة السلطة الأبوية في الغرب عن طريق ثقافة المطلبية والاحتجاج ومفهوم الحرية غير المتوازن تحت شعار(أنا حر أفعل ما أشاء في بدني وفي حياتي) والشباب الذي تربى على هذه الثقافة أو العقلية يصعب عليه أحيانا بعد ذلك سماع نصائح وتوجيهات من يكبرونه سنا فيما يتعلق بخيارات في الحياة أو ببعض القرارات المصيرية أو نوعية العلاقات والصداقات، أو مراجعة بعض المواقف التي لا تتعلق بمجال الثابت من الدين وإنما بدائرة الاجتهاد الواسعة فيه.
ونتطرق في هذا الصدد إلى قضية المعرفة الشرعية -الدينية والمعرفة بخصوصيات الواقع. فهناك صنف من الشباب دخل إلى التدين من باب رد الفعل على المادية السائدة في الغرب وليس دائما عن قناعة بأن الدين والإسلام خصوصا منهج للحياة يضمن السعادة في الدارين. وتكون ثقافته الدينية متواضعة جدا ومحصورة في مجال العبادات وتفاصيلها، بل إن معرفته باللغة العربية تكاد تكون معدومة، علاوة على عدم استيعابه لمقاصد الإسلام وفلسفته ولمقتضيات الواقع الغربي ولمعاني المواطنة. ولكن وتحت ضغط الزخم الإعلامي الذي يختزل واقع العالم الإسلامي في جملة من المآسي، وواقع الجاليات المسلمة في جملة من الإخفاقات وحالة التهميش والإقصاء، يجد بعض الشباب نفسه مدفوعا بنداء الغيرة على الدين وأهله، فيبحث عن فتاوى مستوردة في عصر مفتوح على المعلومات والمعارف عن طريق شبكة الإنترنت والفضائيات. فيجد فتاوى تنطلق من خلفية ثنائية دار الإسلام ودار الكفر وثنائية متناقضة بين الإسلام والغرب، وتكرّس فكرة المفاصلة والتصادم مع أهل الكفر، فيتبنّى مثل هذا الخطاب الذي يشفي غليله وينفّس عما يختلج في صدره، ويلتقي مع حماسه وانفعاليته، فيجد نفسه مجرورا إلى فخ العنف والتدمير أو ما يعرف حاليا بالإرهاب. ذلك أنه من خلال التجارب الواقعية، تبين أن نهج الرفض والتشدد قاد بعض الشباب المسلم في الغرب إلى الغلوّ والتطرّف في المواقف إلى حد القطيعة التامة، والانجرار إلى مخاطر استباحة الأموال والدماء والإجرام.
ولا يمكن التغاضي عن مسألة نفسية مهمة وهي أن الشباب المسلم المقيم في الغرب يعيش قلقا داخليا بسبب قوة الإثارة الجنسية في المجتمعات الأوروبية الغربية، وفي نفس الوقت يجد صعوبات في امتلاك نصف دينه عن طريق الزواج الحلال بحثا عن السكينة والطمأنينة النفسية، في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية وانتشار البطالة التي تمس الشباب من أصل مهاجر بصفة أخص. ولهذا فإن خوفه على دينه يدفع البعض إلى مفاصلة الواقع والتشدد والتزمت ناسيا أن هذا الدين عميق ويحتاج إلى المعرفة والترشيد المستمر للحفاظ على التوازن والاعتدال في الرؤى والخطاب والسلوك
صحيح أن الذين يستخدمون العنف هم أقلية، لكن سلوكياتهم ومواقفهم لها تداعيات خطيرة على التعايش السلمي بين مكونات المجتمع، وعلى صورة الإسلام وأهله. وأول المتضررين من الإرهاب هم المسلمون، ليس على مستوى الضرر المعنوي وتشويه صورتهم في المجتمع فحسب، وإنما أيضا على مستوى الضرر المادي باعتبار أن نسبة من ضحايا الإرهاب هم من المسلمين، لان الأعمال الإرهابية عمياء لا تفرق أحيانا بين إنسان وآخر.
ويحتاج الأمر إلى الكوادر المرجعية التي تقوم بتأطير الشباب المسلم المقيم في الغرب وترشيده وتفهم نفسيته. فهذا الصنف من الشباب يسهل انقيادهم إلى من كانت لهم قدرة على التأثير بالكلمة والحجة الفقهية. والإشكال في عدم امتلاك الشباب الأدوات الكافية للتأكد من صحة المرجعية ومدى انسجام اجتهاداتها مع فلسفة الإسلام وتعامله مع الواقع، خاصة إذا كان واقعا خاصا كالذي تعيشه الأقليات المسلمة في الغرب. فهذا الوضع يحتاج إلى علماء ومجتهدين عارفين بخصوصيات الواقع.
سلبيات العقلية الاستشراقية
في المقابل، هناك حاجة ماسة لمراجعات في العقلية الغربية بطريقة تجعل الأولوية بالنسبة للطرف الغربي القيام بعملية نقد ذاتي فكري وسلوكي. ومن أهم ما تجب مراجعته التأثيرات السلبية لصنف من الاستشراق متحامل على الإسلام وأهله.
ذلك أن جذور النظرة السلبية للمسلمين تعود إلى أدبيات استشراقية منذ القرن الثاني عشر ميلادي. وقد انطلق الاستشراق - وهو مصطلح مشتق من كلمة الشرق أو المشرق والتي تعرف بكلمة ORIENT من خلفية النظرة الأوروبية لتقسيم العالم التي سادت مند القرون الوسطى ومازالت آثارها إلى اليوم، وتقوم هذه النظرة على اعتبار أوروبا مركز العالم، حيث أنها تقع جغرافيا بين شرق - خليط من الأجناس والأعراق والأديان- يمثل الآخر المختلف حضاريا وثقافيا عن أوروبا، وغرب أقصى ما وراء المحيط إشارة إلى العالم الأمريكي الجديد الذي هو نتاج الهجرة الأوروبية. ثم إنها مثلت مركز الإشعاع الثقافي ومركز القوة والنفوذ حتى وقت قريب، بل إن عددا من الأوروبيين ما زال يعتبر أوروبا إلى اليوم هي المحور السياسي والثقافي والإستراتيجي للعالم. فالاهتمام الأوروبي بدراسة الشرق أو المشرق انطلق من خلفية مركزية أوروبية.
أما الخلفية الثانية لهذا المصطلح، فهي أن أوروبا هي جزء من العالم الغربي "المتحضر" وأن ما بقي من العالم يدخل في نطاق الشرق "المتخلف" حضاريا. وفي هذا الإطار، لم تعد كلمة الشرق محصورة في البعد الجغرافي المعروف، بل شملت الفضاءات المحيطة بأوروبا شرقا وجنوبا، والتي توافق مناطق العالم الذي انطلق منه الإسلام وتنتمي إليه الشعوب العربية المسلمة. وهكذا، أصبحت كلمة الشرق ترمز في الذهنية الأوروبية إلى المشرق الذي اختُزل في أساسا في العالم العربي –الإسلامي.
وقد ذهب ((رودي بارت)) إلى أن الهدف الرئيسي من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية له: هو التبشير، وعرّفه بأنه: إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي"
الأمر الذي يفسّر النظرة الدونية للإسلام والمسلمين، والتي عبّرت عنها أدبيات صنف من المستشرقين المتحاملين، الذين استخدموا عدة مداخل لتشويه صورة الإسلام والمسلمين من بينها:
- مصطلح "السراسنة" (Les Sarrazins)، كمصطلح احتقاري للعرب
- إسـاءة توظيف ألف ليلة وليلة
- التشكيك في المصادر الأساسية للإسلام/ القرآن والسنة
- تشويه سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم باعتباره القدوة الحسنة
ومن النتائج والآثار السلبية لهذا الصنف المتحامل من الاستشراق سيادة النظرة المشوهة عن الإسلام وخاصة في مسألتين:
- المرأة التي اقترنت بفكرة الحريم
- العنف الذي مهد لفكرة الإرهاب
- فكرة الشرق الرومانسي، المهتم بالعاطفيات والخيال بعيدا عن العقلانية والعلم
وقد وصلت هذه النظرة السلبية والمشوهة إلى البلاد الإسلامية فتأثرت بها فئة من النخبة السياسية والمثقفة، فكانت تستعمل هذه الأدوات الاستشراقية لمحاربة الإسلام. والتهجم عليه.
من التخويف من المسلمين على الخوف من الإسلام
كما أن الإشكال في تراكم هذه النظرة السلبية عن الإسلام وأهله لدى الراي العام الأوروبي جيلا بعد جيل.
واليوم لا نستغرب وجود بصمات لهذه الثقافة في وسائل الإعلام وفي المواقف السياسية ولدى النخبة بل ولدى الراي العام الغربي عموما.
ومن بين تداعيات ظاهرة التخويف المستمرة من الإسلام، حصول عملية غسل أدمغة الرأي العام الغربي بأن الإرهاب والعنف ليسا مجرد حصيلة انحرافات سلوكية لدى فئة من المسلمين، وإنما أيضا - وهو الأدهى- اعتبار الإسلام في حد ذاته ديانة تحمل في كنهها وفي جوهرها العنف المتجذر في شريعتها وقوانينها..
والنتيجة، الانتقال من التخويف الى الخوف (فوبيا الإسلام)، وما نجم عن ذلك من بروز خطاب كراهية للمسلمين، واختلط الأمر بين الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد العرب الذين يُقصد بهم في العقلية الغربية المسلمين.
أمام هذا التحدي، ارتفعت أصوات تنادي بالتصدي لخطاب الكراهية، عن طريق تعزيز الحوار بين الأديان. إلا أن البعض يفضل استخدام مصطلح الدبلوماسية الدينية.
وقبل التطرق إلى هذا الموضوع، يجدر التعريج على مفهوم الدبلوماسية.
الدبلوماسية والنموذج النبوي الرائد
تعرّف الدبلوماسية على أنها " فن التفاوض على أنه الممارسة الرسمية التي تتبعها معظم الأمم في إرسال ممثلين يعيشون في بلدان أخرى. وهؤلاء الممثلون المفاوضون يُعرفون بالدبلوماسيين، ويساعدون على استمرارية العلاقات اليومية بين بلادهم والبلاد التي يخدمون فيها. وهم يعملون من أجل مكاسب سياسية أو اقتصادية لبلادهم ولتحسين التعامل الدولي".
وإذا كانت الدبلوماسية قد أخذت طابعا سياسيا رسميا، فلأن العالم محكوم بكيانات سياسية تربط بينها علاقات تتراوح بين الحرب والسلم. وتأتي أهمية الدبلوماسية لكونها تتضمن في جوهرها فكرة اجتثاث فتيل التوتر والصراع عن طريق وسيلة الحوار والتفاوض. فهي إما تسهم في بقاء العلاقات في دائرة الاحترام المتبادل بعيدا عن الخلافات والصراعات والحروب، وإما أنها تتدخل لوضع حد للتقاتل ومحاصرة دائرة الصراع حتى لا تتسع وتأكل الأخضر واليابس.
وفي التراث الإسلامي مثال رائع للدبلوماسية في العهد النبوي تجلى في مناسبات عدة من أهمها صلح الحديبية بين المسلمين وبين مشركي قريش بمقتضاه عقدت هدنة بين الطرفين مدتها عشر سنوات في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة (مارس 627م)، وكيف أن الرسول صلى عليه وسلم قبل ببعض البنود التي في ظاهرها تنازلات، ولكنها كانت دروسا في فن التفاوض من أجل المصلحة العامة وبنظرة بعيدة استشرافية ثاقبة. حيث مهدت هذه الهدنة لفتح عظيم وهو فتح مكة في الثامن للهجرة بعد أن نقضت قريش العهد.
وما بين الحدثين (صلح الحديبية وفتح مكة) أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة للهجرة ممثلين للدولة الإسلامية إلى ملوك وقادة الدول والإمبراطوريات المجاورة (الروم والفرس ومصر والحبشة..) في عملية دبلوماسية واسعة لدعوتهم إلى الإسلام وتنبيههم إلى عالمية الدين الإسلامي وإقامة الحجة عليهم، قبل الانطلاق في الفتوحات شرقا وغربا.
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمعاهدة لنصارى نجران، وهي عبارة عن وثيقة تضمن حرية المعتقد لهؤلاء النصارى في ظل دولة الإسلام. وجاء في هذه الوثيقة : (..ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، وصلواتهم لا يغيروا أسقفًا عن أسقفيته، ولا راهبًا عن رهبانيته، ولا واقفًا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل، أو كثير وليس ربا، ولا دم جاهلية، ومن سأل منهم حقًّا فبينهم النصف غير ظالمين، ولا مظلومين لنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله، وذمة النبي أبدًا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا، وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم..).
ومن خلال هذه الأمثلة، يمكن استنتاج نموذجا للربط بين الدبلوماسية السياسية والدبلوماسية الدينية اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم كنهج في دعوته، ليبين أن الأصل في العلاقات البشرية أن تقوم على أساس التفاهم والتعايش المشترك والحوار. وأن اللجوء إلى الصراع والحرب هو استثناء ومن أجل الدفاع وليس من باب الهجوم.
في هذا السياق، يمكن فهم الفتوحات في إطار فلسفة الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين ونشر هذه الرسالة وتقديمها لشعوب الأرض دون إكراه، لأنه لا إكراه في الدين. ولذلك فإن استعمال القوة الذي صاحب المراحل الأولى للفتوحات الإسلامية كان من باب الضرورة، لكسر الحواجز التي وقفت سدا منيعا أمام المسلمين لمنعهم من الوصول إلى عامة الناس وتعريفهم برسالة الإسلام العالمية. والتاريخ يشهد أنه لم تحصل عملية إبادة ولا تقتيل، والدليل أن الشعوب تبنت هذا الدين ورأت في المسلمين محررين لهم من الطغيان والاستبداد. وهكذا انتشرت موجة الفتوحات بسرعة، حيث – وعلى سبيل المثال- وصل المسلمون إلى الأندلس وبالتالي أوروبا سنة 711م (92هـ)، أي بعد أقل من مرور قرن على الهجرة.
ضوابط الدبلوماسية الدينية
تنطلق الدبلوماسية الدينية من المشترك الإنساني لمعالجة مواطن التوتر وسوء التفاهم في العلاقات بين أصحاب الديانات وفي نهاية المطاف تبحث عن حلول لتخفيف التوترات والصراعات بين الشعوب
بيد أن الدبلوماسية الدينية ليست عملية مناظرات دينية – على أهميتها- كما يقوم بها بعض الدعاة والذين اشتهر من بينهم الداعية ديدات، ذلك أن المناظرة " تقوم على أساس وجود طرف مؤيد للقضيّة وطرف آخر معارض أو لديه رأي مخالف في أحد النقاط المطروحة ضمن إطار القضية، حيث يقوم كل طرف بمحاولة إثبات صحة رأيه والدفاع عنها باستخدام الحجج والبراهين العلمية كما يحاول إقناع الجماهير برأيه وحججه، كما يحاول كل طرف إثبات خطأ موقف ورأي الطرف الآخر وذلك من أجل الفوز في المناظرة، وتدار المناظرة ضمن قواعد وضوابط وشروط معيّنة تختلف حسب المكان المستضيف للمناظرة وحسب نوع القضيّة المطروحة."
وعليه فإن روح المناظرة تقوم على أساس المنافسة من أجل الانتصار بالحجة على الطرف المقابل، وليس البحث عن المشترك بين الطرفين ومحاولة الوصول عبر الحوار والتفاوض إلى علاج لمشكلة أو رفع التباس. وبالتالي، فإن المناظرة ستخلّف لدى الطرف الأضعف حجة شعورا بالانهزام. ولئن يقبل البعض ذلك "بروح رياضية" كما يقال، فإن البعض الآخر يحول هذا الشعور إلى كراهية للطرف المنتصر بالحجة الأقوى، خاصة إذا تعلق موضوع المناظرة بمسائل دينية لها نوع من القُدُسية.
من ناحية أخرى، فإن الدبلوماسية الدينية ليست أيضا دعوة لضرب التعددية الدينية باسم البحث عن مشترك إنساني.
ومعلوم أن دعوات تنادي بتوحيد الأديان تحت مسمى "الديانة الإبراهيمية". ومن الوهلة الأولى تعطي هذه الدعوة انطباعا بأنها تهدف إلى إرساء تعايش وتسامح بين الأديان. إلا أنها في الواقع تحمل مشروعا مبطنا عارضه الكثير من العلماء ومن بينهم شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب الذي هاجم هذا المشروع واعتبر أن الدعوة لـ "الإبراهيمية" "تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار". وتساءل عما إذا كان المقصود من الدعوة "تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة". ونبّه "قطعا للشكوك التي يثيرها البعض بغرض الخلط بين التآخي بين الدينين، الإسلامي والمسيحي، وبين امتزاج الدينين وذوبان الفروق والقسمات الخاصة بكل منهما، خاصة في ظل التوجهات والدعوة إلى الإبراهيمية".
وقال إن هذه الدعوات تطمح فيما يبدو إلى "مزج المسيحية واليهودية والإسلام في دين واحد يجتمع عليه الناس ويخلصهم من بوائق الصراعات". لكنه يرى أن الدعوة إلى توحيد الدين دعوة "أقرب لأضغاث الأحلام منها لإدراك حقائق الأمور وطبائعها"، لأن "اجتماع الخلق على دين واحد أمر مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها". وأضاف إن "احترام عقيدة الآخر شيء والإيمان بها شيء آخر".
الدبلوماسية الدينية الرسمية
وهناك نوعان من الدبلوماسية الدينية: دبلوماسية رسمية وأخرى غير رسمية تقوم عليها جهات تنتمي على المجتمع المدني.
فمنها ما يتخذ الطابع الرسمي والذي تتبناه بعض الدول لأسباب تعود عادة إلى كونها تختضن أماكن لها قدسية مثل المملكة السعودية حيث الحرمين الشريفين أو تحمل موروثا تاريخيا دينيا عريقا يجعلها تتصدر الدبلوماسية الدينية الرسمية، مثل مملكة المغرب التي تحتضن جامعة القرويين التاريخية بمدينة فاس، وبحكم إضفاء الطابع الديني على النظام الملكي هناك منذ عهد الأدارسة المستقلة عن الخلافة العباسية. وكذلك مصر التي تحتضن جامعة الأزهر العريقة ولها موقع جغرافي استراتيجي يربط الكتلتين الأفريقية والآسيوية الإسلامية.
كما تسعى دول إسلامية كبرى أعجمية مثل إندونيسيا وتركيا وإيران وطاجكستان.. إلى القيام بدور في الدبلوماسية الدينية، كل حسب منطلقاته واعتباراته وخلفياته. فتركيا اليوم تعتبر نفسها وريثة الدولة ثم الخلافة العثمانية على مدى ستة قرون، وهي تسعى جاهدة إلى استرجاع هيبة الخلافة بطرق مختلفة من بينها الدبلوماسية الدينية. ودائما وعلى مستوى الشرق الأوسط، تسعى إيران إلى دور إقليمي انطلاقا من مرجعيتها الشيعية، والدعوة إلى مقاربة دبلوماسية دينية في إطار ما يسمى بالتقارب أو التقريب بين المذاهب الإسلامية.
وجاء في موقع باسم التقريب وفي مقال بقلم محمد علي الحسيني "أن التقريب بين المذاهب الإسلامية فريضة دينية وخطوة إيجابية ورؤية إسلامية، تدعو علماء الأمة وأهل المذاهب الإسلامية للقاء والاحترام المتبادل والتعارف بينهم والابتعاد عن التكفير، من خلال تأصيل ثقافة القبول بالآخر والحوار المباشر معه وتفعيل المتفق عليه بينهم."
أما في آسيا الشرقية، فإن دولا كبرى مثل أندونيسيا وكازاخستان لها باع في الدبلوماسية الدينية. وتكفي الإشارة إلى أن أندونسيا لوحدها لها وزن إقليمي ولها مميزات مثل الوزن السكاني الديمغرافي وتركيبته المتنوعة دينيا وثقافيا، حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 275 مليون نسمة، وهو ما يجعلها رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان، كما أنها أكبر بلد ذو غالبية سكانية مسلمة.
تقول دلفين ألاس، أستاذة العلوم السياسية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (إنالكو)، والباحثة في مركز آسيا الجنوبية الشرقية بفرنسا: "هناك العديد من أوجه التشابه بين هاتين الدولتين اللتين تقعان على المحيط الجغرافي والرمزي للعالم الإسلامي، ويزعم سكانهما أن غالبية سكانهما من المسلمين (86% في إندونيسيا، وحوالي 70% في كازاخستان)، دون أن يكون لهذا الدين مكان محدد في دستوريهما - علماني منذ عام 1995 في كازاخستان، على أساس نموذج توحيدي فريد من نوعه في إندونيسيا. وفي مجال السياسة الخارجية، تستحضر ما يسمى بالدبلوماسية متعددة الأوجه في كازاخستان، وإن كان بمصطلحات مختلفة، نهجًا مشابهًا لتلك التي تم تطويرها في إندونيسيا بمفهوم "التوازن الديناميكي" ومبدأ الحفاظ على "ألف صديق وصفر من الأعداء"، الذي تم تطويره في ظل رئاسة سلف جوكو ويدودو، سوسيلو بامبانج يودويونو. ويمكننا أيضًا أن نقارن بين حرص قادة الدولتين على الترويج لصورة الإسلام المعتدل والتعددي، سواء مع شركائهم الدوليين أو على الصعيد المحلي. غير أن التقارب يتوقف عند مسألة المؤسسات: فبينما لا تفصل إندونيسيا خطابها حول الإسلام المعتدل والتعددي عن خطاب تعزيز الديمقراطية، الذي تشارك فيه المنظمات الإسلامية الرئيسية في الأرخبيل، فإن كازاخستان تقيم معادلة بين الاعتدال الديني والتوافق المؤسسي الذي يترجم إلى دعم النظام".
إلى المستوى المسيحي، تحتل دولة الفاتيكان صدارة الدبلوماسية الدينية بحكم تمثيلها السياسي والديني للعالم المسيحي الكاثوليكي أساسا. ولهذه الرمزية الدينية تأثير مباشر أو غير مباشر على قرارات المنظومة الدولية من خلال المواقف البابوية في قضايا مختلفة.
كما أن دولا أوروبية وغربية ذات وزن إقليمي ودولي لها دور هام في الدبلوماسية الدينية بعضها ينتمي إلى الفضاء الانجلوساكسوني مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وبعضها الآخر إلى الفضاء الفرنكفوني مثل فرنسا. على أن هذه الأخيرة تمثل خصوصية باعتبارها تقوم منذ سنة 1905 على أساس العلمانية بمقاربة تفصل الدين عن الدولة نظريا. ذلك أن الملاحظين يرون أن البعد الديني حاضر بشكل أو بآخر في مجال العمل الدبلوماسي. "فحتى بعد الفصل بين الكنيسة والدولة هناك عدد من العوامل التي تبرز استمرار ارتباط الدبلوماسية الفرنسية بالمسيحية، وبشكل خاص بالكاثوليكية. فإعادة فتح العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والكرسي الرسولي في عام 1921، والإرث التاريخي لـ "حماية" البعثات الكاثوليكية التي "كانت ترفع العلم الفرنسي في أيام الأعياد، والثقافة الفرنسية القديمة للدبلوماسيين حتى منتصف القرن العشرين, والفرنكوفونية التي كانت الإرساليات الدينية هي مراكزها الأمامية؛ والصورة التي أرادت فرنسا القديس لويس أن تظهرها في معظم رعاياها الوطنية ومراكزها الثقافية في الخارج؛ وبعض الممارسات الدبلوماسية، مثل القداسات من أجل فرنسا، وزيارات الإرساليات، "الذراع المقدسة" للدبلوماسية,..ووجود جمعيات من الدبلوماسيين المسيحيين، حول جان لالوي وجان ماري سوتو، بالقرب من مجلة "ريفيو إسبريت"، وتعيين جورج بيدو أو روبير شومان وزيرًا للخارجية, وفرانسيسك غاي سفيرًا في أوتاوا، وجاك ماريتان الذي عيّنه شارل ديغول سفيرًا لدى الكرسي الرسولي في عام 1945، وحتى بعض أنثروبولوجيا الدبلوماسي، كلها علامات على دبلوماسية تستدعي المقدس أو تعبئ الشبكات السياسية أو الثقافية المسيحية"
ومن خلال ما تم استعراضه من أمثلة للأطراف الرسمية المتصدية للدبلوماسية الدينية، تتبين الأهمية المتزايدة لهذا الصنف من الدبلوماسية على المستوى العالمي. وهو إن دل على شيء فهو يدل على الشعور المتنامي بأن الدين الذي حاولت جهات معينة تهميشه أو إقصاؤه بطرق مختلفة تحت حجة الحداثة والتطور، يعود اليوم إلى الساحة الدولية بتعبيرات متنوعة تصب في اتجاه تعاظم دور البعد الإيماني والتعاليم الدينية في حياة البشر منذ منتصف السبعينات وهو ما تطرقت إليه الأستاذة دلفين ألاس المشار إليها أعلاه في كتابها بعنوان " حصة أو نصيب الآلهة". وتأكد هذا التوجه مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات. ويرى الملاحظون أن التغير الكبير يتمثل في انتقال التنافس بين كتلتين شرقية اشتراكية وكتلة غربية رأسمالية إلى تحديد خصم جديد وهو الإسلام، بالنظر إلى الصحوة الدينية التي ظهرت في صفوف المسلمين حيثما كانوا في العالم الإسلامي أو كأقليات في ديار الغرب. ومن تداعيات هذا التوجه الجديد، بروز خطاب الكراهية للإسلام وأهله.
وأمام هذا التحدي، انبرت الجهات الرسمية وغير الرسمية للدعوة إلى نبذ خطاب الكراهية.
الأمير عبد القادر الجزائري والدبلوماسية الدينية
من بين هذه المبادرات على مستوى المجتمع المدني، قيام نخبة من المسلمين بالتعاون مع جهات دينية أخرى بمشروع عنوانه: "الدبلوماسية الدينية: سلام وتصالح: تجرية الأمير عبد القادر."
ويهدف هذا المشروع الى الإقناع بان الدبلوماسية الدينية هي الحل الوحيد لتجاوز التحديات القائمة اليوم أمام التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع بغض النظر عن الاعتبارات الدينية والعرقية.
واعتمد أصحاب المبادرة على مرجعية تاريخية مشهورة متمثلة في المجاهد عبد القادر الجزائري، وهم يتحركون عبر أوروبا والعالم للتعريف بالعطاء الحضاري لهذه الشخصية، التي تركت بصمات على المتعاطفين معها وحتى على خصومها. مع إبراز جوانب مغمورة في حياة المجاهد عبد القادر، لها علاقة بالبعد الإنساني في تعامله مع الآخر.
في هذا السياق، عُقدت ندوتان بفرنسا الأولى في كلية العلوم الإسلامية بباريس، والثانية بمعهد ابن خلدون بمرسيليا جنوب فرنسا تحت عنوان "الأمير عبد القادر والدبلوماسية الدينية".
وقد حضرت من الولايات المتحدة شخصيتان من المتخصصين الأمريكيين البارزين في مجال الدبلوماسية الدينية. وهما الإمام محمد بشار عرفات، الإمام السابق في مدينة "بالتيمور" بالولايات المتحدة الأمريكية ومؤسس مؤسسة تبادل الحضارات والتعاون (برنامج تبادل الشباب بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول العالم الأخرى)، ومؤسس مدرسة الدبلوماسية الدينية في واشنطن، إلى جانب جون كيزر، رئيس مؤسسة مشروع الأمير عبد القادر، ومؤلف كتاب "رهبان تيبيرين" الذي ألهم فيلم "رجال وآلهة".
ومن خلال هذه الفعالية، تبين أن الأمير عبد القادر له صيت في الولايات المتحدة حتى أنه سُميت مدينة باسم "قادر" في ولاية أيوا تكريما له. ومن بين الأفكار الهامة التي تطرق إليها المحاضرون أنه من دون الدبلوماسية الدينية، لا يمكن معالجة المجتمع من المرض المستشري فيه والمتمثل في العنصرية وكراهية الأجانب. كما لا يمكن مكافحة هذا المرض بدون هذا الصنف من الدبلوماسية. ويرجع ذلك أساسًا إلى محاولة إرجاع المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى عوامل ذات طبيعة دينية أو ثقافية.
وحتى لا تبقى هذه الدعوة في عداد النظريات، فإن تنزيلها على ارض الواقع يحتاج إلى نماذج حية.
في هذا السياق، تمت الإشادة بالنموذج القيمي في شخصية الأمير عبد القادر، حيث كان مسلما ربانيا وشيخا مشبعا بالقيم الإنسانية وعلى رأسها الدفاع عن حقوق الإنسان، سواء في أوقات السلم أو الحرب. يقول " إذا جاءني من يريد معرفة درب الحقيقة سوف أقوده من غير مشقة نحو الحقيقة.. سأفعل ذلك ليس بغرض دفعه لاعتناق أفكاري لكن قصد إظهار الحقيقة أمام عينيه".
كما أنه جمع بين بعدين نادرا ما يجتمعان في شخصية واحدة. فهو من ناحية مقاوم ومنافح عن دينه والحرية لوطنه وقومه في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وشُهر بشجاعته في الحرب. ومن أقواله "وإن دوي الرصاص وصهيل الخيل لآذاننا خير من صوت الرخيم". كما عرف بشهامته وعزة نفسه. يقول " لو جمعت فرنسا سائر أموالها وخيرتني بين أن أكون ملكا عبدا أو أن أكون حرا فقيرا معدما، لاخترت أن أكون حراً فقيرا"
ومن ناحية أخرى، قام الأمير عبد القادر بمكافحة الإسلاموفوبيا التي كانت سائدة في عصره كما هي سائدة اليوم، ودعا إلى الابتعاد عن كل أشكال الظلم والسيطرة واستعباد البشر.. ولم يمنعه محاربته للاستعمار من حماية المسيحيين والتفريق بين المعادي والمسالم. وكان دائماً يدعو للحكمة والأخوة والسلام الحقيقي القائم على الندية في التعامل بين الناس.
ومن الأقوال البارزة عن الأمير عبد القادر الجزائري شهادة فرحات عباس الذي يقول “..أعطى الدليل بأنه قد جمع الحذاقة والدبلوماسية الفائقة مع العبقرية العسكرية السامية والمهارة الحربية الرائعة".
كما أن الأستاذ مصطفى شريف، المفكر والخبير في حوار الثقافات والأديان يعتبر من أكبر المتخصص في شخصية الأمير عبد القادر. وقدم مداخلة في الفعالية التي نظمت بباريس حول الأمير عبد القادر جاء فيها " بصفتي مثقفا جزائريا، من الطبيعي أن أقترن بشخصية استثنائية جدا، ليس من قبيل المصادفة، إنها ثمرة الهوية الجزائرية"
وأضاف متحدثا عن شخصية الأمير عبد القادر " إنها قصة دفعته إلى صدارة المشهد العالمي وهو في سن الثالثة والعشرين من عمره، كقائد للمقاومة ورئيس لدولة حديثة بناها وهو في سن الثالثة والعشرين. إنه عبقرية إنسان وعبقرية أرض في آن واحد، فكيف لنا أن نتحدث عن الأمير الذي يحظى بشهرة كبيرة وتقدير في العالم أجمع، الذي هو في حاجة إلى هذه الشخصية. لقد ترك لنا إرثاً يستوعب كل أبعاد الحياة. لقد ترك لنا ثقافة ذات ثلاثة أبعاد: ثقافة الضيافة، وثقافة الكرامة، وثقافة المقاومة".
وعلى ذكر الشهرة والتقدير العالميين، فقد أكسبت الأمير عبد القادر من خلال أعماله اعتراف وإعجاب خصومه وأتباعه على حد سواء (الملكة فيكتوريا والبابا بيوس التاسع ورؤساء من أنحاء العالم، بما في ذلك اليونان وفرنسا وتركيا). وكان مصدر إلهام لمفهوم "الدبلوماسية الدينية" حيث أن التوقف عند شخصيته يسلط الضوء على أهمية بناء السلام والمصالحة التي تتلخص في فكرة الدبلوماسية الدينية. كما قدم مثالًا يفترض أن تحتذى به الأجيال الصاعدة من المسلمين ومن غير المسلمين، خاصة في عالم اليوم الذي يشهد تحديات جمة على مستوى التعايش، وتتصاعد فيه موجة الشعبوية الحاملة لخطاب الكراهية والعنصرية.
المصادر والمراجع
https://fr.statista.com/statistiques/867620/nombre-prisonniers-nationalite-france
https://taqribislamic.org/index.html
-
مقابلة مع الأستاذة دلفين ألاس تحت عنوان "الدبلوماسية والأديان التركيز على الحالة الإندونيسية"
-
صدر في نشرة ASIA FOCUS #167 – PROGRAMME ASIE / septembre 2021 التي يصدرها معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بفرنسا iris
-
"الدبلوماسية والدين"، جيل فيراغو وفلوريان ميشيل إصدارات جامعة السريون
DIPLOMATIE ET RELIGION Gilles Ferragu Florian Michel
فهرس المحتويات
|
الدبلوماسية الدينية ودورها في التصدي لخطاب الكراهية
|
|
الموضوع
|
رقم الصفحة
|
|
المقدمة
|
86
|
|
الكراهية والرهاب (فوبيا) ظاهرتان متلازمتان
|
86
|
|
الإسلاموفوبيا والجدل بشأن دوافعها وأسبابها
|
87
|
|
الانحرافات السلوكية والفكرية لدى شريحة من أبناء المسلمين
|
87
|
|
رواسب التخلف وضعف الإبداع الحضاري
|
88
|
|
ثقافة الرفض والتشدد
|
89
|
|
سلبيات العقلية الاستشراقية
|
92
|
|
من التخويف من المسلمين على الخوف من الإسلام
|
94
|
|
الدبلوماسية والنموذج النبوي الرائد
|
94
|
|
ضوابط الدبلوماسية الدينية
|
96
|
|
الدبلوماسية الدينية الرسمية
|
97
|
|
الأمير عبد القادر الجزائري والدبلوماسية الدينية
|
99
|
|
المصادر والمراجع
|
102
|