منهج القرآن الكريم في الحد من الخطابات المتعصبة، والمثيرة للكراهية خطاب الكراهية من المنافقين أنموذجًا: دراسة استقرائية استنباطية
أ . د هناء عبد الله سليمان أبو داود
ملخص البحث
تهدف هذه الدراسة إلى الوصول للمنهج القرآني في الحد من الخطابات المتعصبة والمثيرة للكراهية من خلال دراسة خطاب الكراهية الصادر من المنافقين أنموذجًا. وقد اتبعت المنهج الاستقرائي والاستنباطي، وذلك بدراسة الآيات الكريمة مستشهدة بالمواقف النبوية التي جاءت في معرض الكشف والرد على المنافقين في المجتمع المدني، وقد قسمت الدراسة إلى مقدمة وثلاثة مباحث، يعرض المبحث الأول: مواقف المنافقين التي يظهر فيها خطاب الكراهية، أما المبحث الثاني: فتحدث عن المنهج القرآني في التعامل مع مواقف المنافقين، والمبحث الثالث: تناول أسباب عدم إقامة الحد على المنافقين، ثم ختمت الدراسة بخاتمة ذكرت فيها أبرز النتائج والتوصيات؛ ومن أهم النتائج:
-
خطاب الكراهية الذي يدعو إلى التمييز والفرقة بين الناس على أساس لونهم أو جنسهم أو عرقهم هو خطاب مرفوض ومحرم شرعاً ؛ لأنه يخالف تعاليم الإسلام التي كرمت الإنسان وأرسلت قواعد العدل والمساواة، وجعلت ميزان التفاضل التقوى ومخافة الله تعالى، فالتمسك بتعاليم الإسلام السمحة تحمي الفرد والمجتمع من أي فكر منحرف.
-
التمثل بموقف الإسلام من خطاب الكراهية، والتعامل معه بحكمة ورويَّة وقبول الأعذار فيما يمكن قبول العذر فيه والإعراض والتغاضي، وأخذ الموقف بحزم فيما لا يمكن تجاوزه وإقامة الحدود.
ومن أهم التوصيات:
-
العناية بسمعة الإسلام وشرح محاسن الإسلام، والاجتهاد في تقديم الحجج والبراهين التي تجلي فضائل الإسلام ومبادئه وقيمه السامية فلا عصبية ولا كراهية ؛ وإحياء شعار: (دَعُوها فإنَّها خبيثةٌ ومنتنةٌ).
-
الحرص على غرس قيم وأخلاقيات الإسلام في الأجيال القادمة وتنمية الوازع الديني ليزداد المجتمع تماسكًا.
-
ترسيخ وتشجيع الوحدة الوطنية، ومحاربة كل أشكال التطرف والعنف والسب والسخرية والقذف.
-
إصلاح المجتمع من خلال نشر التعبير الإيجابي الذي يدعو لوحدة الصف والتضامن والوحدة.
الكلمات المفتاحية: خطاب الكراهية، الخطابات المتعصبة، المنافقين، المنهج القرآني، التفسير
المقدمة
الحمد لله رب البريَّة، والصلاة والسَّلام على هادي البشريَّة، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
دين الإسلام دين الرحمة والسلام والعدل والمساواة ؛ حقيقة واقعة تشهد لها صفحات القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ؛ فلا تكاد تخلو سورة من كتاب الله من مقصد تأصيل الأخلاق والقيم، وما كانت بعثة النبي ﷺ إلا لتتميم الأخلاق التي كان يتصف بها العربي من مروءة وشهامة، وشجاعة وكرم حيث قال ﷺ: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) . وأوصى القرآن بالمخاطبة بالحسنى، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.[البقرة: ٨٣]. والمسلم يؤثر الدعاء بالهداية والمغفرة للمخالفين له اقتداء بالنبي الكريم ﷺ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) .
وقد سنَّ الإسلام التشريعات التي تحفظ كرامة الإنسان، وحارب التعصُّب والعنصرية، وقدَّم حلولاً عملية للقضاء على بوادر أي نظرةٍ دونيَّةٍ أو تمييزٍ، فجعل ميزان التفاضل بين بني الإنسان هو التقوى فقط، فلا تمييز في الإسلام على أساس الجنس أو اللون أو العرق، فالجميع ينتمون لأبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ، ليحنِّن أقوياءهم على ضعفائهم، وغنيهم على فقيرهم؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. [الحجرات: ١٣]. وفي تفسير هذا الخطاب العالمي للبشرية يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفسٍ واحدةٍ، وجعل منها زوجها وهما آدم و حواء وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، وبعدها مراتب أُخر، كالفصائل والعشائر والأفخاذ وغير ذلك … فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة اللّه تعالى ومتابعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً، منبهاً على تساويهم في البشرية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ أَيْ: لِيَحْصُلَ التَّعَارُفُ وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، أي: "إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب" .
وقد حرّم الإسلام كذلك كل ما يؤذي المؤمنين والمؤمنات من اللعن والشتم والغيبة والنميمة والخوض في الباطل ؛ قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾. [الأحزاب: ٥٨]. وقال ﷺ: " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الفَاحِشِ وَلاَ البَذِيء".
بل المسلم يقدِّم التماس العذر للناس قدر الإمكان ما لم تكن مسألة فيها مخالفة صريحة للإسلام، فحينها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن.
أسَّس النبي ﷺ في المدينة دولة تقوم على أسس ومبادئ راسخة ضاربة في الأرض صمدت أمام التحديات الداخلية والخارجية، كانوا على قلبٍ واحدٍ بغضِّ النظر عن أصولهم أو لون بشرتهم أو جنسهم، وقد كتب النبي ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار أوَّل مقْدَمِه المدينة ؛ ويعدُّ هذا الكتاب بمثابة الوثيقة الدستورية الأولى في تاريخ المسلمين، هذه الوثيقة جعلت المجتمع واحداً الكلُّ فيه سواء، وضمنت الوثيقة لغير المسلمين أن يعيشوا آمنين في ظل دولة الإسلام ؛ حيث حوت هذه الوثيقة سبعاً وأربعين بنداً جاءت لتنظيم العلاقة بين أهل المدينة وغيرهم ممن يحاربهم أو يناصرهم، ونصت على تشريعاتٍ تنظم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين بعضهم بعضاً وبين غير المسلمين ، فعزَّزت مفهوم الامتثال للقانون، والمسؤولية الجماعية، وحقوق المواطنة، كما عززت مفهوم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد ؛ فالإسلام منهج رباني لا مكان فيه للتعصب والعصبية، وهذه التعليمات والنظم الإسلامية سبقت الجمعيات الحقوقية وجمعيات حقوق الإنسان في إرساء حقوق الإنسان ونبذ خطاب الكراهية والعنصرية فعليًّا في أرض الواقع، والتي تطالب ببعضها الآن تلك الجمعيات الحقوقية والحقيقة أنها لا تزال في جانب التطبيق النظري ؛ فالقول شيءٌ والفعل شيءٌ آخر.
كان يعيش في المدينة مع المسلمين فئات مختلفة من اليهود والمشركين، وظهرت مع بزوغ شمس الإسلام فئةً تظاهرت بالإيمان وأبطنت الكفر، أطلق عليهم القرآن الكريم في بعض المواضع اسم (الأعراب) وفي مواضعٍ أخرى اسم (المنافقين)، فكانوا يتربصون بالمؤمنين، يؤججون نيران الفتن والتآمر والعصبية، والقبلية، وثقافة الكراهية كلما سنحت لهم الفرصة لتوهين صف المؤمنين وبث الفرقة فيما بينهم، مع الاتحاد بشكل منسق مع مشركي قريش ومشركي العرب ومع اليهود في الجزيرة العربية من أجل إضعاف الدولة الإسلامية والقضاء عليها.
وفئة المنافقين هذه خصَّها القرآن الكريم بنحو ثلاثمائة وستين آية ، فهم أشد النماذج البشرية خطرًا على المؤمنين ؛ لأن من أظهر الكفر يعرفه المؤمنون فيتقون شره ويحذرونه ولا يقبلون قوله ، أما المنافق فلا يتنبهون لسخريته ولا يحذرونه ؛ لأنه يظهر الإيمان وربما أتى بالشعائر الظاهرة. وقد كان المنافقون في عهد النبي ﷺ يصلُّون خلفه ويصومون معه ويغزون معه ؛ وهم يبطنون الكفر ؛ ولذا توعدهم الله بعذابٍ أشد من عذاب الكافر فهم في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾. [النساء: ١٤٥]. فهم ينتمون للإسلام ظاهرا ؛ لكنهم ينخرون في جسم المجتمع من الداخل ويضربون في تماسُكه.
هدف البحث:
الوصول للمنهج القرآني في التعامل مع الخطابات المتعصبة والمثيرة للكراهية، خطاب الكراهية من المنافقين أنموذجًا، وكيف تعامل النبي معهم، وكيفية الحد منها في المجتمع المسلم ؟ ..
منهج البحث وحدوده:
منهجي في البحث هو استقراء آيات القرآن الكريم التي تناولت خطاب الكراهية من المنافقين في مواقف ثلاثة: في سخريتهم واستهزائهم بالمؤمنين، وفي دعواهم بدعوى الجاهلية، وفي افترائهم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثم التأمُّل والتدبُّر في هذه الآيات وفي مواقف الرسول ﷺ منها، واستنباط المنهج القرآني والنبوي في الحد من خطاب المنافقين المثير للكراهية، فمنهجي سيكون منهجاً استقرائياً استنباطياً.
المبحث الأول
مواقف المنافقين التي يظهر فيها خطاب الكراهية
الإسلام يمنح مبدأ حرية التعبير كحق مشروع ؛ لكنه يمنع من حريةٍ تُتخذ وسيلة للطعن في الدين أو الخروج على الجماعة، ومن أسلحة المنافقين في الصد عن دين الله السخرية بالدين وأهله، وأحاديث الإفك والبهتان، والدعوى بدعوى الجاهلية.
المطلب الأول: ممارسة المنافقين السخرية والاستهزاء بالمؤمنين:
ظهرت سخرية المنافقين بالمؤمنين في مواضع شتى في القرآن الكريم ابتداء في سورة البقرة عند التعريض بصفات المنافقين عندما قيل لهم آمنوا قالوا عن المؤمنين: ﴿قالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ﴾. [البقرة: ١٣]. فوصفوا الإيمان بالسفه ! وجعلوا المؤمنين سفهاء !! يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله ﷺ ، رضي الله عنهم، قاله ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وفضح القرآن سريرة المنافقين وما كانوا يخبرون رؤوس الكفر من اليهود والمشركين بأنهم معهم، وأن إيمانهم ظاهرًا فقط يستترون بهم وأنهم يسخرون بالمؤمنين ويتلاعبون بهم. قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾. [البقرة: 14].
وجاء في سورة التوبة أيضا ما يفضح المنافقين، فمن أسماء السورة (الفاضحة) و (الكاشفة) و (المقشقشة) ؛ لأنها أظهرت ما تخبئه قلوبهم وهتكت أستارهم: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾. [التوبة: ٦٤]. قال مجاهد: (يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا) .
وحكى القرآن الكريم بعض ما فعله المنافقون من السخرية الدين وأهله: فلمزوا النبي ﷺ ! ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ...﴾. [التوبة: ٥٨]. يعيبون على النبي ﷺ في الصدقات إذا فرقها وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم .
يحكي الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فعل بعض المنافقين يقول: " بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ وهو يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ -وهو رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ- فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، اعْدِل ْ، فَقالَ: ويْلَكَ ! ومَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قدْ خِبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لي فيه فأضْرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقالَ: دَعْهُ، فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" .
وسخروا بأصحابه عندما تصدقوا بالقليل والكثير ؛ كما حكى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بشيءٍ كَثِيرٍ فَقالوا: مُرَائِي، وجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بصَاعٍ، فَقالوا: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَاعِ هذا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. [التوبة: 79].
وسخر المنافقون بقرَّاء الصحابة ونزل فيهم قرآنا يتلى من فوق سبع سموات ؛ وكان أعظم فضح للمنافقين في سورة الفاضحة، كما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت، ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله ﷺ. فبلغ ذلك رسول الله ﷺ ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله ﷺ تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله ﷺ يقول: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾. [التوبة: ٦٥] ، ونزلت الآية بعدها: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ﴾ [التوبة: ٦٦].
ولذا فأقوال العلماء في المذاهب الفقهية الأربعة متضافرة على كفر من استهزأ بشي من دين الله تعالى، أو سخر من شخص لتمسكه بشعيرة من شعائر الإسلام. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: (من سب الله تعالى كفر، سواء مازحًا أو جادًا، كذلك من استهزأ باللهِ تعالى، أو بآياتِه أو برُسُلِه، أو كُتُبِه). اهـ .
المطلب الثاني: دعوى المنافقين بدعوى الجاهلية:
كثيرًا ما كان المنافقون يثيرون النعرات القبلية والفتن، ويحرضون على إحيائها بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة رغبة في التسيُّد عليهم ؛ فقد كان القتال بينهم في الجاهلية حربًا لا تنطفئ جذوتها، وكان عبدالله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ويرغبون في تتويجه ملكًا على الجميع قبل مقدم النبي ﷺ إلى المدينة، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام حقد، ورأى أن رسول الله ﷺ قد استلبه الحلم الذي كان يحلم به، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارهًا مصرًا على النفاق، بل رأس النفاق وكبير المنافقين .
جاء الإسلام ليقضي على كل معالم الجاهلية ومنها هذه الدعاوى العصبية القبلية وجعل الولاء للمسلمين جميعًا عربًا أو عجمًا، وقد حدثت واقعة في عهد النبي ﷺ ظهرت فيها دعوى الجاهلية من أجَّج أوارها هو كبير المنافقين ابن أبي بن سلول. يخبر الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنهم خرجوا في غزوة مع رسول الله ﷺ، قيلَ: غَزْوةُ المُرَيْسيعِ «بَني المُصطَلِقِ» سَنةَ ستٍّ منَ الهِجرةِ، وقدْ خَرَج المنافِقونَ مع النَّبيِّ ﷺ في هذه الغَزْوةِ ؛ لأنَّ السَّفرَ كان قَريبًا، فطَمِعوا في الغَنيمةِ، فقال رضي الله عنه:
" غَزَوْنَا مع النَّبيِّ ﷺ وقدْ ثَابَ معهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا، وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ (أي: يلعب بالحراب، وقيل: مزَّاح)، فَكَسَعَ أنْصَارِيًّا (أي: ضرَبَ دُبُرَه بيَدِه، أو رِجلِه)، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حتَّى تَدَاعَوْا، وقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبيُّ ﷺ فَقالَ: ما بَالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ ؟! ثُمَّ قالَ: ما شَأْنُهُمْ ؟ فَأُخْبِرَ بكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيَّ قالَ: فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: دَعُوهَا ؛ فإنَّهَا خَبِيثَةٌ. وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ: أقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ؟ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فَقالَ عُمَرُ: ألَا نَقْتُلُ يا رَسولَ اللَّهِ هذا الخَبِيثَ ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ) .
وفيه نزلت الآيات: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. [المنافقون: ٨].
" قال رجل منهم عظيم النفاق: عليكم صاحبكم، عليكم صاحبكم، فوالله ما مَثلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل: " سمّن كلبك يأكلك "، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وهم في سفر... " ، بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معه هم الأذلون، وهنا يتجلى خطاب الكراهية من المنافقين.
المطلب الثالث: افتراء المنافقين على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها:
حاول المنافقون الطعن في عرض النبي ﷺ بالافتراء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما عرف في كتب السيرة بـ (حادثة الإفك)، كما جاء تسميتها في القرآن كما سيأتي، وقد كان غرضهم النيل من النبي ﷺ في آل بيته الأطهار ليزعزعوا الصف المسلم، ويحدثوا الخلل والاضطراب في المجتمع، بعد أن فشلوا في إثارة العصبية والعنصرية ونشر خطاب الكراهية بين المهاجرين والأنصار.
وقد أورد القصة الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وملخص القصة كما وردت في كتب مظان الحديث وفي السيرة: أن المنافقين استغلوا حدثة وقعت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في طريق العودة من غزوة بني المصطلق؛ حين نزلت من هودجها لبعض شأنها، وعندما عادت فقدت عقدًا لها فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ولم يشعروا بعدم وجودها فيه حيث كانت قليلة اللحم حينذاك، وحين عادت لم تجد الركب، فمكثت مكانها على أن يفتقدوها ويعودوا لأخذها، وكان أن تخلف الصحابي الجليل صفوان بن المعطل رضي الله عنه عن العسكر فرآها، فحملها على بعيره وعاد بها للمدينة فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولى ذلك رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول، وخاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ثلاثة من المسلمين: هم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتهمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك.
أوذي النبي ﷺ بما يقال أذى شديدًا، وتوقف نزول الوحي شهرًا كاملًا عانى منه النبي ﷺ، وصرح في المسجد عن هذا الأذى في أهل بيته، وأعلن ثقته التامة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبالصحابي صفوان رضي الله عنه، وكانت عائشة رضي الله عنها في تلك الفترة مريضة تطبّب في بيت والدها فلم تسمع بالإشاعة إلا مؤخرًا، ثم نزل الوحي مبرئًا لها رضي الله عنها وأرضاها من فوق سبع سموات. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 11 لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ 12 لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ 13 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 14 إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ 15 وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ 16 يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 17 وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 18 إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 19 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 20﴾. [النور:11-20].
ثم توالت الآيات تكشف مواقف الناس في هذا الافتراء، وكانت حادثة الإفك تمثل حلقة فريدة من سلسلة الإيذاء والمحن التي لقيها النبي ﷺ من المنافقين، فقد كان هو الهدف من هذه الشائعة لعرقلة مسيرة دعوته، وظنوا أنهم أصابوا النبي ﷺ في مقتل بما فعلوه من الافتراء على أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وأنه سيعرقله عن الدعوة وعن الإسلام .
المبحث الثاني
المنهج القرآني في التعامل مع مواقف المنافقين
كان المنافقون يعيشون مع النبي ﷺ في المدينة يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والإسلامَ يَعصِمُ دِماءَهم وأموالَهم، ثمَّ يَومَ القيامةِ يَتولَّى اللهُ تعالى حِسابَهم؛ فيُثيبُ المُخلِصَ، ويُعاقِبُ المُنافِقَ، تعامل معهم النبي بالظاهر والله يتولى السرائر، لكن خطاب الكراهية منهم كان يظهر في كثير من المواقف... فماذا قال الله فيهم وكيف تعامل النبي ﷺ معهم ؟؟
المطلب الأول: موقف القرآن من سخرية واستهزاء المنافقين.
-
الواجب على المؤمن الثبات على الدين وعدم طاعتهم، لا يطيعهم ويدع أذاهم ؛ أي: يصفح ويتجاوز عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، فإن فيه كفاية لهم، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾. [الأحزاب: ٤٨].
-
الصبر على المنافقين وعلى أذاهم وسخريتهم وخطاب الكراهية منهم، مع التقوى واليقين، فقد أمر بذلك النبي ﷺ: ﴿فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. [هود: ٤٩].
-
يجب على المؤمنين عدم موالاة المستهزئين بدين الله، ولو كانوا أقرب الناس وأحبهم لهم ؛ لأن الله أمر ألا يتخذوهم أولياء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. [المائدة: ٥٧].
-
عدم حضور مجالس المنافقين التي يسخر فيها ويستهزأ من الدين، فقد نهى الله عن القعود معهم إلا على سبيل الإنكار، والعاقبة وخيمة لمن حضر وسكت ؛ فهو كمن استهزأ بنصِّ القرآن: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾. [النساء: ١٤٠]. وأقبح من ذلك الاعتذار لهم أو الدفاع عنهم. قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾. [النساء: ١٠٧].
إن ما يلاحظ في المواقف القرآنية والنبوية تجاه ما يصدر من المنافقين من سخرية واستهزاء وخطاب الكراهية هو:
الوقوف في المنتصف ما بين التعجل في إنزال ما يستحقون من عقوبة، والقبول بما يصدر منهم من منافرة صريحة للإسلام يورثهم الكفر. فلا يستطيع أحد أن يدعي أن القرآن بادر فأنزل عذابه جزاءً من جنس العمل، فهذا لم يحصل، والواقع هو الإعراض عنه: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) جاء هذا الأمر بالإعراض عن المنافقين في عدة مواضع في القرآن الكريم: في سورة النساء: آية ٦٣ وآية ٨١، وفي سورة الأنعام آية ٦٨، وفي سورة التوبة آية ٩٥.
ولا يستطيع أحد كذلك أن يظن أن من حقوقهم حرية التعبير، ولو تمادوا إلى سب وشتم الرسول ﷺ - حاشاه ذلك - والاستهزاء بالمؤمنين.
المطلب الثاني: كيفية التعامل مع دعوى المنافقين بدعوى الجاهلية:
نزل قرآنا يتلى يعنى بتصحيح المفاهيم.. الأمر بعكس ما قال هذا المنافق، قال تعالى: ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فلهذا فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار هم الأذلاء. ﴿وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل.
وهذا النوع من النفاق غير المحتمل للعذر، وقد صدر منهم مواقف تخاذل أخرى قبلها ولم يعاقبهم النبي ﷺ ؛ حين انسحب ابن أبي بن سلول بثلث الجيش في معركة أحد، وبعدها أيضا تخلفهم في غزوة تبوك وجاءوا يعتذرون ويحلفون للنبي ﷺ وكانوا بضعة وثمانين رجلا وقبل عذرهم وقبل ﷺ علانيتهم، واستغفر لهم النبي ﷺ، ووكل سرائرهم إلى الله، وغيرها من المواقف وقد تفاوتت ردة فعل المنافقين تجاه ما نزل من أحكام من:
-
حلف كاذب واتخاذ الأيمان جنة يستجنون بها من أحكام الله. قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون:2].
-
إلى التراجع وطلب العفو والمغفرة حتى التوبة … وقد فضح الله سريرتهم أيضًا. قال تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾. [المنافقون: ٩٤].
وفي كلها كان الشارع معهم رحيم، عفا وصفح، وأذن بتوبتهم، وامتنع عن قتلهم.
رفض النبي ﷺ قتل ابن سلول ؛ حتى لا يتحدث من لا يعرف ابن سلول أن النبي ﷺ يقتل المسلمين، فيحجم الناس عن الدخول في الإسلام بسبب ذلك، وهذه سياسة عظيمة، وحزم وافر ؛ لأن الناس يرون الظاهر، والظاهر أن عبد الله بن أبي كان من المسلمين، ومن أصحاب الرسول ﷺ .
ويتجلى هنا حلم النبي ﷺ وصبره على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، فقد كان ﷺ يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، "وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه ﷺ، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم، فلم يأمر بقتلهم لهذه الأمور" ..
المطلب الثالث: الموقف القرآني من حادثة الإفك:
بقي رسول الله شهراً والوحي لا يخبره شيئاً عن صدق أو كذب هذه الحادثة، فاستشار رسول الله الناس، ولا سيما أقرب الناس منه، فاستشار علي رضي الله عنه الذي ربي في بيته، واستشار أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي كان الحِبُّ ابن الحبِّ لرسول الله ، فأثنى الناس على عائشة خيراً رضي الله عنها، وأشار عليه علي بن أبي طالب أن يسأل الجارية واسمها بريرة، فأثنت خيراً . وتوجه رسول الله إلى عائشة رضي الله عنها، وطلب منها أن تصدقه الحديث، وقال لها: " فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ "، فأجابته ببراءتها، وقالت: "وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا، إِلَّا أَبَا يُوسُفَ" إِذْ قَالَ: ﴿فَصَبرٌ جَميلٌ وَاللَّـهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ﴾ ، فتيقّن رسول الله من براءتها .
لم يعاقب صلوات الله وسلامه رأس النفاق والذي روج لهذه التهمة الشنيعة ولم يخاطبه، وانتظر نزول الوحي، نزل الوحي مبرئًا لها رضي الله عنها وأرضاها من فوق سبع سموات، وتم تطبيق حد القذف على من خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الثلاثة من المسلمين: هم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش رضوان الله عليهم.
تجاوزها بالصبر والحلم والحكمة والثبات إلى أن ظهرت براءة الصديقة رضي الله عنها.
ومن الحكم والفوائد المترتبة على هذه الحادثة:
-
تشريع حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين. أقيم الحد على الصحابة الذين خاضوا في عرضها، إلا أنه لم يقم الحد على عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وقد فسر القرطبي ذلك في تفسيره بقوله: (لم يحد عبدالله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه... وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال في الحدود إنها: " ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا فَعُوقِبَ به في الدُّنْيَا فَهو له كَفَّارَةٌ " ، ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي ائتلافا لقومه، واحترامًا لابنه، وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه... والله أعلم). اهـ .
-
ومن الفوائد الهامة أيضا وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها، فخطاب الكراهية من المنافقين موجود ؛ لكن لا نساعد على نشره ورواجه وإشاعته. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾.
المبحث الثالث
أسباب عدم إقامة الحد على المنافقين
النبي ﷺ لم يقم الحد على أكثر المنافقين الذين عاشوا معه في مدينته المباركة المشرفة .
قال ابن القيم رحمه الله: " النبي ﷺ لما قيل له: ألا تقتلهم ؟ لم يقل: ما قامت عليهم بينة، بل قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " .
ونتعلم من الحديث: مراعاة النظر للعامة على النظر للخاصة، والتحذير من كل عمل فيه تنفير الناس عن الدخول في الإسلام.
وأجاب علماء الإسلام عن أسباب عدم إقامة الحد على المنافقين، - وقالوا: إنه لا يصح دليلًا على عدم قتل المرتد -، وذلك من أوجه عديدة:
أولا: أن ترك النبي ﷺ إقامة عقوبة الردة على من يظهر الكفر من المنافقين، كان سياسة شرعية لدرء فتنة أعظم، ومفسدة أكبر من مفسدة هذا المظهر للكفر، وهي اتهام الإسلام عامة، بل واتهام نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بأنه يقتل أصحابه، ويسفك دماء مَن حوله مِن سكان المدينة، فيطير بذلك المشركون والمنافقون كل مطار، ويعملون آلتهم الإعلامية المفسدة، فيشتبه الأمر على كل مَن لم يعرف حقيقة الأمر، وهم الأكثر عادة ؛ فالناس تسمع عن سفك الدماء أكثر من سمعها عن سبب ذلك السفك، فالقتل إذا وقع يصبح حقيقة، وأما عذر القتل فهو ظن قد يُنقل وقد يَخفى، والإسلام يومئذ طري عوده، ودولته فتية ناشئة، فكانت السياسة الشرعية منه عليه الصلاة والسلام تقتضي تأجيل قتل من يستحق القتل، لتحقيق مصلحة أعظم، ودرء فتنة أكبر.
ثانيًا: أن ترك العقاب كان في الأمر الأول، زمن ضعف الإسلام وبداية نشأة الدولة، وتربص أعدائها في الداخل والخارج بها، ثم نسخ الحكم الشرعي وتبدل، حين استتب الأمر، واستقرت الدولة، وجاء نصر الله والفتح، تغير الحال، وصار العقاب حتما لازما لكل من يجهر بكفره وردته.
ثالثًا: كثير من الحوادث التي غض النبي ﷺ الطرف عنها، ولم يستتبعها بعقاب خاص لأصحابها إنما وقعت في السر والخفاء، ولم يجهر بها أصاحبها من المنافقين، ولم يظهروها على ملأ المسلمين. ومعلوم أن الإسلام لا يؤاخذ الناس بسرائرهم، وإنما يحكم بالظاهر، كما قال ﷺ: (إنما أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ) .
رابعًا: ثم إن الأحاديث الصحيحة تدل على وقوع العقوبة في كثير من الأحيان، على مَن يصرح بعدائه مِن المنافقين، فلا تسلم أصل الدعوى على إطلاقها، فالنبي ﷺ لم يترك عقاب المصرحين بكفرهم مطلقا، بل أقام على بعضهم، وترك آخرين.
خامسا: عفو النبي ﷺ إنما كان إسقاطا لحقه الخاص، فقد كان يحب العفو والصفح والمغفرة ويشفق على المنافقين، ويهم بالاستغفار لهم والصلاة عليهم رحمة بهم، وينهى أصحابه عن التعرض لهم أو ليهود المدينة يتألفهم، رجاء هدايتهم ونجاتهم.
أما المسلمون بعده عليه الصلاة والسلام فلا يملكون إسقاط حق نبوته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وليس لهم أن يتعاملوا إلا بأحكام الظاهر، وينفذوا عقوبة خرق ميثاق الإسلام والطعن في مقدساته.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومن هذا الباب: أن الرجل الذي قال له لما قسَّم غنائم حنين: ( يا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قالَ: وَيْلَكَ وَمَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ؟ لقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ! فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: دَعْنِي، يا رَسولَ اللهِ، فأقْتُلَ هذا المُنَافِقَ، فَقالَ: معاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي) ، أما في حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فبين ﷺ أنه [أي: حاطب] باقٍ على إيمانه، وأنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم أن دمه معصوم، وهنا عَلَّل بمفسدة زالت. وكذلك لما أمنت هذه المفسدة أنزل الله قوله: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم﴾. [التوبة: 73] بعد أن كان قد قال له: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾. [الأحزاب: 48]. قال زيد بن أسلم: " قوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) نسخت ما كان قبلها ".
فإن قيل: قد قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾ إلى قوله: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. [المجادلة: 8]. فأخبر أنهم يحيون الرسول ﷺ تحية منكرة، وأخبر أن العذاب في الآخرة يكفيهم عليها، فعلم أن تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مَرَّ يَهُودِيٌّ برَسولِ اللَّهِ ﷺ فقالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: وعَلَيْكَ. فقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أتَدْرُونَ ما يقولُ ؟ قالَ: السَّامُ عَلَيْكَ. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ألا نَقْتُلُهُ ؟ قالَ: لا، إذا سَلَّمَ علَيْكُم أهْلُ الكِتابِ، فَقُولوا: وعلَيْكُم) .
ومثل هذا الدعاء فيه أذى للنبي ﷺ وسب له، ولو قاله المسلم لصار به مرتدا ؛ لأنه دعاء على رسول الله ﷺ في حياته بأنه يموت، وهذا فعل كافر، ومع هذا فلم يقتلهم، بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه في قتله.
إن قول أصحاب النبي ﷺ له: (ألا نقتله) لما أخبرهم أنه قال: (السام عليكم): دليل على أنه كان مستقرا عندهم قتل السَّاب من اليهود ؛ لمَّا رأوه قتل ابنَ الأشرف والمرأة وغيرهما، فنهاهم النبي ﷺ عن قتله، وأخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله ؛ لأنه ليس إظهارا للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما، وإنما هو إسرار به كإسرار المنافقين بالنفاق.
وإن النبي ﷺ كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته وليس للأمة أن تعفوا عن ذلك.
وفي رواية لمسلم: (... فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ. قالَ: ويْلَكَ، أوَلَسْتُ أحَقَّ أهْلِ الأرْضِ أنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قالَ: ثُمَّ ولَّى الرَّجُلُ، قالَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ: يا رَسولَ اللَّهِ، ألَا أضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ قالَ: لَا، لَعَلَّهُ أنْ يَكونَ يُصَلِّي...) .
ومن ذلك قول الأنصاري - الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له. ﷺ: (اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثُمَّ أرْسِلْ إلى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، آنْ كانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ؟!) .
كان النبي ﷺ وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله، امتثالا لقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. [الأعراف: 199]. وكقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. [فصلت: 34].
ومما يوضح ذلك: أن رسول الله ﷺ كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم، حتى قال: (لوْ أعلَمُ أنِّي لوْ زِدتُ على السبعينَ غُفِرَ لهُ لزِدْتُ) ، حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم وأمره بالإغلاظ عليهم.
فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام، وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار: كان قبل نزول براءة، لما قيل له: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾؛ لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم، وخشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم، فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر، فيرون واحدًا من أصحابه قد قُتِل، فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض، أو حقد، أو نحو ذلك، فينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته، فلأن يتألفهم بالعفو أوْلى وأحرى.
فلما أنزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم ؛ نسخ جميع ما كان المنافقون يعامَلون به من العفو، كما نسخ ما كان الكفار يعامَلون به من الكف عمن سالم، ولم يبق إلا إقامة الحدود، وإعلاء كلمة الله في حق الإنسان .
قال ابن حجر رحمه الله: " وليس المراد أنه تركه أصلاً، وأنه لا يعفُ أبدًا، لا، بل بالنسبة إلى ترك القتال أولاً، ووقوعه آخرًا، وإلا فعفوه ﷺ عن كثير من المشركين، واليهود بالمن والفداء، وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير " .
وعلى هذا القول فإنّ هذا حكم العفو والإعراض عن المنافقين منسوخ كان في أوَّل الإسلام وضعف المسلمين الذي كان يتحقق معه غلبة مفاسد إقامة مثل هذا الحكم، وقد زال هذا فلا يكون ثمَّ حاجة لترك إقامة هذه الأحكام بسبب هذه المفسدة ؛ إلّا أنّ هذا لا يمنع من إعمال الحكم حين يحدث من الضعف والحاجة مثل ما حدث في أوَّل الإسلام.
الخاتمة
الحمد لله رب الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، فبعض عرض منهج القرآن الكريم في الحد من الخطابات المتعصبة، والمثيرة للكراهية / خطاب الكراهية من المنافقين أنموذجًا، وذلك من خلال بعض المواقف والخطابات التي صدرت منهم في عهد النبوة ألخص أهم النتائج التي توصلت لها بفضل الله في هذا البحث فيما يأتي:
-
خطاب الكراهية الذي يدعو إلى التمييز والفرقة بين الناس على أساس لونهم أو جنسهم أو عرقهم هو خطاب مرفوض ومحرم شرعاً ؛ لأنه يخالف تعاليم الإسلام التي كرمت الإنسان وأرسلت قواعد العدل والمساواة، وجعلت ميزان التفاضل التقوى ومخافة الله تعالى، فالتمسك بتعاليم الإسلام السمحة تحمي الفرد والمجتمع من أي فكر منحرف.
-
الموقف القرآني والنبوي من المنافقين موقفان:
الموقف الأول: عدم حرية الخوض في الله أو آياته ورسله بالسخرية والمعارضة الصريحة، بلا عذر من تأول، أو جهل، بل عن سبق إصرار وعن علم، كما حصل مع من استهزأ بقراء الصحابة رضوان الله عليهم .
الموقف الثاني: عمن صدرت منه كلمات محتملة أو صريحة عن جهل أو خوض بلا وعي مع امتلاء القلب بالإيمان ؛ فيقام عليه الحد ويكون كفارة له.
-
التمثل بموقف الإسلام من خطاب الكراهية، والتعامل معه بحكمة ورويَّة وقبول الأعذار فيما يمكن قبول العذر فيه والإعراض والتغاضي، وأخذ الموقف بحزم فيما لا يمكن تجاوزه وإقامة الحدود.
أهم التوصيات والمبادرات:
-
العناية بسمعة الإسلام وشرح محاسن الإسلام، والاجتهاد في تقديم الحجج والبراهين التي تجلي فضائل الإسلام ومبادئه وقيمه السامية فلا عصبية ولا كراهية ؛ وإحياء شعار: (دعوها فإنها خبيثة ومنتنة).
-
بذل كافة الجهود لإزالة الشكوك والشبهات والتشويهات التي توجّه لرسالة الإسلام ؛ فالإسلام دين العدل والمساواة.
-
الحرص على غرس قيم وأخلاقيات الإسلام في الأجيال القادمة وتنمية الوازع الديني ليزداد المجتمع تماسكًا.
-
ترسيخ وتشجيع الوحدة الوطنية، ومحاربة كل أشكال التطرف والعنف والسب والسخرية والقذف.
-
إصلاح المجتمع من خلال نشر التعبير الإيجابي الذي يدعو لوحدة الصف والتضامن والوحدة.
-
يمكن الحد من الخطابات المتعصبة والمثيرة للكراهية من خلال:
أولا: استغلال وسائل التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها، كمنصات لبثّ رسالة الإسلام السمحة، وتعريف الناس بهذا الدين العظيم، فالإسلام منهج رباني لا مكان فيه العنصرية أو التعصب، أو التمييز على أساس اللون أو الجنس.
ثانياً: احترام حق الآخرين في حرية التعبير ما دام أنه لا يتعلق بموضوع يصادم قواعد الشرع.
ثالثاً: استخدام أسلوب الحوار الهادئ في القضاء على الأفكار العنصرية وخطاب الكراهية، والتوعية بمخاطر التمييز والتعصب، كعقد الدورات التدريبية والتوعوية للحد من خطورة خطاب الكراهية.
رابعاً: تفعيل المسؤولية الفردية والمجتمعية، فعلى الأسرة والمجتمع متابعة أبنائهم وحمايتهم من الفكر الدخيل أو المتعصب، وحسن رعايتهم دينيًا وخلقيًا.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
المصادر والمراجع
-
القرآن الكريم.
-
زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط ٢٧، 1415 هـ، 1994 م، ج ٥.
-
ابن قدامة، عبدالله بن قدامة الجماعيلي المقدسي ؛ أبو محمد، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي - عبد الفتاح الحلو، دار عالم الكتب، 1417 هـ - 1997 م، مج ١٥، ط ٣.
-
الإتقان في علوم القرآن، ابن الكتب، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394 هـ - 1974م، ج ٤.
-
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، ط ١، بيروت: دار الكتب العلمية، 1419هـ..
-
السيرة النبوية (سيرة ابن هشام)، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، 1410 هـ - 1990 م، مج ٤، ط ٣.
-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)،أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري ، دار الفكر، بيروت، 1405 هـ، (ط. د)، ج 30.
-
أسباب نزول القرآن، أبو الحسن، علي بن أحمد بن محمد الواحدي الشافعي، تحقيق: عصام بن عبد المحسن الحميدان، قال المحقق: قمت بتوفيق الله وحده بتخريج أحاديث الكتاب تخريجا مستوفى على ما ذكر العلماء أو ما توصلت إليه من خلال نقد تلك الأسانيد، دار الإصلاح - الدمام، 1413 هـ - 1992 م ، ط ٢.
-
صحيح مسلم، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ أبو الحسن، مسلم بن الحجاج،،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1412هـ – 1991 م.
-
فتح الباري بشرح البخاري، أبو الفضل، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وتصحيح تجاربه: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية - مصر، 1380 هـ ، ط ١، ج ١٣.
-
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا، محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1392 هـ، ط ٢. مج ٩، ج ١٨.
-
الصارم المسلول على شاتم الرسول، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية، ط. د.
-
صحيح الجامع الصغير وزياداته، أبو عبد الرحمن، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ج 2 ، ط. د.
-
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ط1، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ - 2000 م.
-
الجامع لأحكام القرآن، أبو عبدالله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1384 – 1964 م، ط ٢، مج ١٠، ٣٠ ج.
-
صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه)، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري،، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط1، دار طوق النجاة، 1422 هـ.
-
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبدالله، أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ج ٥٠ (آخر ٥ فهارس) ، ط ١، ١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م.
-
مفاتيح الغيب=التفسير الكبير= تفسير الرازي، أبو عبدالله، الفخر الرازي؛ محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي، دار الفكر، 1401 هـ - 1981 م، ج ٣٢، ط ١.
-
سنن الترمذي، أبو عيسى، محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر وآخرون، ط2، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1395 ه - 1975م.
-
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، عبد الباقي، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب المصرية، 1364 هـ، مج١.
-
الوثيقة النبوية والأحكام الشرعية المستفادة منها، العيساوي، جاسم محمد راشد العيساوي، مكتبة الصحابة – الشارقة، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، مج ١.
-
التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، السعودية، ط٢، ١٤٣٠هـ - ٢٠٠٩ م.
فهرس المحتويات
|
منهج القرآن الكريم في الحد من الخطابات المتعصبة، والمثيرة للكراهية خطاب الكراهية من المنافقين أنموذجًا: دراسة استقرائية استنباطية
|
|
الموضوع
|
رقم الصفحة
|
|
ملخص البحث
|
51
|
|
المقدمة
|
52
|
|
المبحث الأول: مواقف المنافقين التي يظهر فيها خطاب الكراهية
|
55
|
|
المطلب الأول: ممارسة المنافقين السخرية والاستهزاء بالمؤمنين
|
55
|
|
المطلب الثاني: دعوى المنافقين بدعوى الجاهلية
|
56
|
|
المطلب الثالث: افتراء المنافقين على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها
|
57
|
|
المبحث الثاني: المنهج القرآني في التعامل مع مواقف المنافقين
|
60
|
|
المطلب الأول: موقف القرآن من سخرية واستهزاء المنافقين.
|
60
|
|
المطلب الثاني: كيفية التعامل مع دعوى المنافقين بدعوى الجاهلية
|
61
|
|
المطلب الثالث: الموقف القرآني من حادثة الإفك
|
62
|
|
المبحث الثالث: أسباب عدم إقامة الحد على المنافقين
|
64
|
|
الخاتمة
|
68
|
|
المصادر والمراجع
|
70
|
|
فهرس المحتويات
|
72
|